مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

«إعادة توطين»

تكثر المقالات والبرامج والمقابلات المرتبطة بالتغطية الإعلامية لذكرى مرور ثلاث سنوات على الأزمة السورية. وتطلق تسميات مختلفة لما تمر به سوريا من مآسي، "الحرب" و"النزاع" و"الثورة" وغيرها، حيث ضاعت القضية بين ساحات القتال والمؤتمرات الدولية، ولكن ربما التسمية الأكثر دقة ان هذه "أزمة" يعاني منها غالبية السوريين ومعهم من يحب سوريا ويريد مخرجا لها. وعلى الرغم من ضرورة تسليط الضوء على هذه الأزمة، ليس فقط بهذه المناسبة، ولكن بشكل دائمي، إلا ان التصريحات والتقارير لا تجلب ما هو جديد. حتى صور الدمار ودموع الأطفال باتت مكررة، على الرغم من ان كل صورة وراءها حياة خاصة لشخص لديه من يحبه ويخاف عليه ومن يشتاق له، له ذكريات لماض بعيد وتساؤلات عن مستقبل مجهول. وبينما هذه الأزمة باتت الأكثر تسجيلا في العالم وفضائع ما يمر به السوريون أمام أعيننا، فالمؤشرات كلها تدل على ان هذه الأزمة ستطول وتتخذ أبعادا جديدة من دون حل قريب.
كل هذه قضايا باتت معروفة اليوم، ولكن "الخبر" المختلف هذا الأسبوع عن سوريا دفن وسط التغطية الموسعة للذكرى الثالثة لاندلاع الثورة، وهو مطالبة المفوض السامي لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة انتونيو غوتيريس ببدء عملية "اعادة توطين" اللاجئين السوريين الى "دول ثالثة". فبعد سنوات من إصرار الأمم المتحدة على ان الطريقة الأمثل لمعالجة تدفق اللاجيئن الى دول الجوار هي وقف الحرب داخل سوريا وتهيئة الأوضاع لعودة اللاجئين الى منازلهم ومدنهم، بدأت المفوضية السامية تبحث عن "البديل".
حديث غوتيريس العلني عن ضرورة بدء عملية منح اللاجئين السوريين حق اللجوء الى الدول "الثالثة"، بعد الدولة الاولى سوريا والدولة الثانية الجارة، يأتي من قناعة بأن حياة اللاجئين المعلقة يجب ان تستمر ولا يمكن ان تبقى مرتبطة بانتظار حل للأزمة. وهذا دليل جديد على ان الحل بعيد المنال ولا يوجد أفق واضح لانتهاء الصراع العسكري والسياسي في سوريا، كما ان دول الجوار، خاصة الأردن ولبنان، باتت غير قادرة على استيعاب أفواج اللاجئين المضطرين الى ترك وطنهم. ومرور سنوات منذ وصول أول اللاجئين الى تلك الدول لتصل اعدادهم الى الملايين، منتشرين بين المدن والقرى والمخيمات، يحتم التفكير بمستقبلهم وخاصة مستقبل الأطفال الذي بات الشتات الواقع الوحيد الذي يعرفونه.
خلال الأسابيع المقبلة، سنرى نقاشات في الولايات المتحدة وأوروبا حول كيفية التعاطي مع "اعادة التوطين"، وستعلو أصوات مناصرة للاجئين وأخرى تحمل عنصرية ضد "الاجنبي". وستشمل النقاشات تساؤلات عن "تكلفة" استضافة اللاجئين و"الأعباء" التي ستترتب على قدومهم. ولكن وسط كل ذلك، علينا ان نتذكر ان اللاجئين أنفسهم يتحملون العبء والتكلفة الأكبر، من الناحيتين المادية والنفسية. فـ"إعادة التوطين" من أصعب المواقف التي يمكن ان يمر بها الانسان عندما يكون مجبرا عليها، ومن المؤسف ان العبارة المتعارف عليها باللغة العربية هي "إعاد التوطين"، وهذا مصطلح خاطئ، إذ لا يمكن لإصدار أوراق ثبوتية جديدة أو منح اللجوء لشخص أن يعني إعطاءه "وطنا جديدا". وكلمة "التوطين" وعلاقتها بـ"الوطن" وكل المشاعر والمعتقدات المرتبطة بها في غاية الأهمية والحساسية لنا نحن كعرب، بينما بالانجليزية ليس لها علاقة بالوطن بل تشير العبارة اكثر الى "الاستقرار مجددا"، وفيها طمأنينة أكثر مما تحمله "اعادة التوطين" وكأنه انتزاع الوطنية من الشخص.
إلا ان قضية "اعادة التوطين" تأخذ منحى سياسيا للساسة والبيروقراطيين الذين سيشرفون على هذه العملية، والتي من المرجح ان تتسارع وتيرتها في الأسابيع المقبلة، خاصة في اوروبا والولايات المتحدة وكندا. وعلى المسؤولين في تلك الدول التذكر بأن السياسات الفاشلة خلال السنوات الماضية أدت الى ما وصلنا اليه اليوم في سوريا، عليهم ان يفعلوا كل ما يقدرون عليه حتى تكون سياسات استقبال السوريين أقل فشلا.
الكثير من السوريين داخل بلادهم وخارجها، وبمختلف توجهاتهم السياسية وآرائهم بما يدور في بلدهم، يواجهون اليوم تحدي اتخاذ القرار الأسلم لهم ولعائلاتهم في اختيار محل استقرارهم مستقبلا. قرار "الهجرة" من دون موعد معروف للعودة، وقرار الدولة التي سيتخذون منها "وطنا" مؤقتا أم دائما، بالاضافة الى قرار مَن من العائلة سيرحل ومن سيبقى، كلها تفرض اسئلة وخيارات يكون في اغلب الحالات أحلاها مرا. قرارات واجهتها الشعوب العربية في العقود والسنين الماضية لأسباب متعددة، من نكبة فلسطين وما تبعها من حروب الى معارك وحروب صدام حسين.
ويبدو ان مقولة "كل الناس لهم وطن يعيشون فيه إلا نحن فلنا وطن يعيش فينا"، لم تعد مع الأسف شعارا للفلسطينيين فقط.