محمد مصطفى أبو شامة
كاتب وصحافي مصري
TT

مشنوق بـ«رباط الجزمة»

تذكرتُ مقطعًا من قصيدة قديمة لشاعر مغمور (يكتب بالعامية المصرية) وقاطَعَ الشعر منذ زمن، كان يقول فيه: «خلاص/ وهاموت ومشنوق برباط الجزمة الـ(Red Wing)/ وهاعلق جثة نفسي ف جيبي المخروم/ من كتر ما شال في قصايد/ وأتحزم بالناس في مظاهرة سلمية/ تنادي بوقف نزيف الشعر».
أما الشاعر السابق فهو (الفقير إلى الله) كاتب المقال، وقد اخترت لسببين رمزية الحذاء الـ«Red Wing» في قصيدتي القديمة؛ أولا لأن هذا الحذاء (قبل ربع قرن) كان عنوانًا للجاذبية ودليلا على قمة «الشياكة»، لم ينافسه إلا الحذاء الإنجليزي الـ«Clarks»، وكانت لا تتحقق الأناقة إلا مع ارتداء نظارات الشمس «Ray Ban»، ويكون بنطالك من الـ«Jeans» بـ«ماركاته» الكثيرة التي أذكر منها «Wrangler» و«Lee» ومعها بالطبع الـ«T-Shirt» الذي يكون إما «Lacoast» أو «Benetton». ومع اكتمال كل عناصر «الطقم» تصل للصورة المثالية للشاب العصري (من وجهة نظرك بالطبع)، وهو المعنى نفسه الذي اختزلته الأجيال التالية في كلمة «روش».
أما السبب الثاني لاختياري رمزية الحذاء الأميركي الشهير (Red Wing)، الذي أهداني إياه والدي متعه الله بالصحة والعافية، فلأنه يدمج معنى السلطة ويصطاد عصفورين برمز واحد، هما سلطة الأب وسطوة الحاكم الأوحد للعالم، مع إدراكي بالطبع للفارق الكبير بين السلطتين، لكن في جذوة الشباب وفورانه واندفاعه «كل شيء يجوز»، وفي كل الأحوال كنتُ سعيدًا بقصيدتي المتمردة، الثائرة، التي كتبتها في منتصف التسعينات من القرن الماضي وكان عنوانها.. «خلاص».
تذكرتُ كل ذلك كأنه مشاهد سينمائية، بعد أن شكلت الدموع في عيني مرايا داخلية عزلت نظري عن إكمال الخبر الذي دفعني لنفق الذكريات دون تمهيد. جففتُ عيني لأكمل قراءته مشدوهًا غير مصدق، ورغم أن الخبر كان مدفونًا في ركن معتم من الصحيفة، فإنني التقطته بفعل «نوستالجيا» القصيدة القديمة، كان عنوان الخبر صاعقًا: «وفاة طالب مشنوقًا برباط حذائه»، ما أقسى أن يهذي خيالنا بفكرة مجنونة، وتتحقق فجأة بعد أكثر من 20 عامًا.
اعتصر الحزن قلبي، وأنا أقرأ تفاصيل خبر وفاة الطالب «أحمد مطيع» بالمرحلة الإعدادية (13 عامًا) في حي شبرا الخيمة بمحافظة القليوبية (شمال العاصمة القاهرة)، بسبب معاقبة والده له على استيلائه دون علمه على خمسة جنيهات (أقل من نصف دولار أميركي)، وقد خففت الصحف وصف فعل الطالب المشنوق، ولم تسمِّه بالاسم الأنسب، وهو أنه قد «سرق» والده.
ولم يكشف لنا الخبر نوع العقاب الذي تلقاه الطالب المتوفّى (المنتحر)، والذي كان دافعه ليتخلص من حياته منتحرًا شنقًا بـ«رباط الجزمة» بعد أن ثبَّتَه (الرباط) في «جنش» بسقف الغرفة، وإن كان يبدو أنه عقاب مؤثر ومحطم لمعنوياته، أما قيمة المبلغ محل العقاب فهي مثيرة للشفقة، وتعكس ببساطة حالة فقر موحشة تعاني منها هذه الأسرة التي ربما لو كانت تعيش في ظروف مادية أفضل، ما كان الأب قد انفعل بقسوة (متخيلة) ليعاقب ابنَه على فعلته، ومن ثم انتحر كردّ فعل على هذا العقاب.
أرجو ألا تكون قصتي دافعًا لأن نترك الأمر لأولادنا ليستولوا على ما يشاءون من أموال دون علمنا، ونغضّ الطرف ولا نعاقبهم، حتى وإن كنا على حال نقيض من أسرة الطالب المشنوق، وننعم من فضل الله برغد العيش.
لكن القصة تركتني حائرًا، لا أدري وأنا أربي أبنائي في هذا الزمان المضطرب والمنفتح، كيف أعاقبهم؟ ومتى؟ وما نوع العقاب المأمون؟ ولأي سن يحق لي كأب أن أعاقب أبنائي؟ وهل تكفل الإجابات النموذجية - على أسئلتي السابقة - الضمان بعدم انتحار الابن؟
وأي إجابة لن تطمئن القلوب، كلنا نشقى، آباءً وأمهات، مع إشكاليات التربية المناسبة لأبنائنا في هذا العصر، تطاردنا مقارنة غير منصفة مع الشكل التقليدي الذي تربينا عليه، رغم أن دورنا أصبح هامشيًّا في عملية التربية، بعد أن تعاظمت أدوار المؤثرات الخارجية وتراجع دور الأسرة وانحسر.
ومع كل هذا، لا مجال لأن نستسلم، ومثلما اجتهدنا في سنواتهم الخمس الأولى بالحرص الشديد على تطعيم أطفالنا بكل الأمصال المتاحة والمعروفة لحمايتهم من الفيروسات والأمراض، علينا أن نكمل جهادنا في سنواتهم التالية ونعمل على تطعيمهم بالأخلاق المحصِّنة من فوضى الأفكار.
حفظهم الله وأعاننا.