ولد اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا في ميونيخ، في الساعات الأولى من يوم الجمعة الماضي - وأعلنت وفاته في المدينة نفسها في غضون يوم واحد، وهو تطور كشف عن مدى تراجع نفوذ الولايات المتحدة في هذا النزاع.
وربما كان وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند صاحب أذكى اقتراح بشأن الاتفاق، عندما قسمه إلى شقين خلال مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي، والذي انطلق بعد ساعات من توقيع الاتفاق. وإلى حد ما، قد يتم تنفيذ أحد هذين الشقين، والمتعلق بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المحاصرين، وسيكون بالتأكيد إنجازا مهما. أما الشق الآخر من الاتفاق، المتعلق بهدنة محتملة، فهو مرهون بالكامل بما تريده روسيا، بحسب هاموند.
ويعد هذا في حد ذاته اعترافا لافتا: فمنذ متى كانت روسيا، وليس الولايات المتحدة، صاحبة الدور الحاسم في أي جزء من الشرق الأوسط؟ منذ الآن. وتظهر بنود الاتفاق عجز الولايات المتحدة في سوريا.
ينبغي ألا يكون هناك، على المدى القصير، على أقل تقدير، أي غموض بشأن ما تريده روسيا، والحديث لفيودور لوكيانوف، الذي يرأس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي، والذي يقول إن حلب هي ما تريده موسكو.
قال لوكيانوف: «الاتفاق ميت ولكنه سيعود للحياة بعد محاولتين أو ثلاث». وبيّن أن هذا يعود لطبيعة النزاعات، مشيرًا إلى نماذج مشابهة كالبوسنة، وأوكرانيا بوجه خاص، حيث تطلب الأمر عدة محاولات، من سبتمبر (أيلول) 2014 إلى فبراير (شباط) 2015 للتوصل إلى اتفاق هدنة متماسك.
بالطبع هنالك ما يثير الشك عند النظر في اتفاقات الهدنة الفاشلة في أوكرانيا، والتي استخدمتها روسيا لتجنب تعرضها لعقوبات أشد قسوة، بينما تواصل تحقيق الحد الأدنى من أهدافها العسكرية. وفي سوريا، يتضمن هذا المستوى من الأهداف استعادة الرئيس بشار الأسد لحلب، أكبر مدن سوريا قبل الحرب.
بعد وقت قصير على هجوم السناتور الأميركي جون ماكين على الاتفاق بوصفه «غير أخلاقي»، لهذا السبب وحده، قال لي أوكيانوف: «روسيا لن تتوقف طبعا عن دعم الأسد إلى حين استعادة حلب، أو تحريرها - سمها كما شئت». وأوضح: «هذه مسألة حاسمة تماما، سواء بالنسبة إلى استقرار سوريا في المستقبل، أو قدرة روسيا على أن تبرهن على أن عمليتها العسكرية أحدثت فارقا. ولكي تصل إلى هذا، فأنت بحاجة إلى حدث مشهود بحجم استعادة حلب».
لهذا لا يتضمن الاتفاق الذي وقعه لافروف أي ذكر لوقف الغارات الجوية، ولهذا استمرت حملة القصف الروسي يوم الأحد من دون هوادة. ولهذا ربما وافقت الولايات المتحدة ضمنيا في نص الاتفاق على التعاون العسكري الوثيق، لكنها لن تمضي فعليا في ذلك - وهو ما سرعان ما اشتكى منه لافروف، الذي حذر من أن الاتفاق لن يكتب له النجاح من دون مثل ذلك التعاون الوثيق. ستواصل الولايات المتحدة رغم كل شيء حملتها الجوية ضد تنظيم داعش، بصرف النظر عن أي اتفاق لوقف إطلاق النار، لا يكون «داعش» أو فرع تنظيم القاعدة، جبهة النصرة، طرفا فيه. إذن لم لا تخلق مجالا للعمليات المشتركة؟
وكما قال لي الأستاذ بجامعة هارفارد، ومساعد وزير الخارجية الأميركي السابق نيكولاس بيرنز، فإن الولايات المتحدة تعتقد بأن روسيا تستخدم القنابل غير الموجهة والذخائر العنقودية عديمة التمييز في المناطق الآهلة بالمدنيين في حلب، بذريعة مكافحة الإرهابيين. قال بيرنز: «يمكنك أن تدرك تماما سبب عدم استعداد وزير الخارجية جون كيري لوضع الولايات المتحدة في خندق واحد مع روسيا، في هذا العمل في سوريا».
وهذا ما سيعنيه التعاون العسكري الوثيق في اختيار الأهداف، الذي يصر الروس على أن يشمل حلب - وهو تبييض وجه روسيا، سواء فيما يتعلق بنتائج الحملة الروسية «ضد الإرهاب»، والضحايا من المدنيين، واللاجئين وكل شيء.
وإذا كانت روسيا لن تعمل على تمكين أي اتفاق لإطلاق النار إلى حين السيطرة على حلب، فهذا يثير سؤالا عما سيحدث بعد سقوط المدينة، أو على الأقل محاصرتها. يتمتع لوكيانوف بوفرة من المصادر المطلعة، لكنه قال إنه لا يملك إجابة. ومع هذا فهو يشعر بالقلق. إن تحذيرات رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف نهاية هذا الأسبوع، من الانزلاق إلى مستنقع حرب باردة جديدة، يوحي بأن بوتين قد يكون قلقا من هذه النتيجة كذلك.
قال لوكيانوف: «عند مرحلة معينة، سيكون من المحتوم أن يحدث تدخل تركي كامل»، لافتًا إلى القلق الشديد الذي ستشعر به تركيا بشأن عشرات، إن لم يكن مئات الآلاف من اللاجئين الذين يتدفقون على تركيا، بينما تسيطر القوات الكردية والحكومية السورية على الحدود بالكامل، بما يمنع وصول تركيا، ويخلق نموذجا لدولة كردية.
وواقع الأمر أنه إذا لم يكن حديث تركيا والسعودية مؤخرا عن إرسال قوات بردية قد أثار قلق القوتين العظميين، فيجب أن يكون مثل هذا الحديث مقلقا بالنسبة لهما.
قال لوكيانوف: «سيعني هذا نزاعا مختلفا تماما، مع وجود قوة أكبر بكثير تقاتل إلى جانب المعارضة وخطر نشوب نزاع روسي تركي مباشر». وتركيا عضو بحلف شمال الأطلسي، ومحمية بموجب بند الدفاع المشترك للحلف، وقد أسقطت بالفعل طائرة روسية، ومن ثم لا يمكن استبعاد أي شيء. كما سيكون احتمال وصول التصعيد إلى نقطة النزاع بين روسيا والناتو حقيقيا.
ورغم هذا فإن بوتين ليس مضطرا لاختبار حدود ما يمكن أن تذهب إليه تركيا، ما إن يتم حسم مستقبل حلب إلى حد ما. يمكن لبوتين أن يدعم اتفاق هدنة، ويضع تركيز قوته الجوية وقوات الأسد البرية على تنظيم داعش في معقله بالرقة. سيكون هذا هو الخطوة الثانية الكبرى التي يمكن معها إعلان الانتصار، لكنها ستثير الانقسام بين الغرب والمنطقة حول تدخله في سوريا. وفضلا عن هذا، سيترك هذا الأسد - وليس أي من فصائل المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة أو تركيا - مسيطرًا على الأراضي التي ينسحب منها «داعش». وثمة مؤشرات بالفعل على أن الأسد يجهز لهجوم من هذا النوع.
إن مشكلة كيري، ومشكلة الولايات المتحدة وحلفائها كذلك، هي أن بوتين يمسك فعليا الآن بكل خيوط اللعبة. قد لا تكون روسيا اللاعب المهيمن في الشرق الأوسط، لكنها كذلك، عندما يتعلق الأمر بسوريا.
*بالاتفاق مع بلومبيرغ
7:47 دقيقة
TT
اتفاق الهدنة في سوريا ميت وروسيا تدير اللعبة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة