د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

خمس مراحل للحزن الثوري

في عام 1969 أصدرت عالمة النفس السويسرية إليزابيث كوبلر روس كتابها «عن الموت»، الذي كان خلاصة أبحاثها من معايشة الذين يخوضون تجربة الوفاة المؤكدة وكيف يتعاملون معها. في هذا الكتاب رأت أن من يمرون بالتجربة يعيشون خمس مراحل: أولاها الإنكار، بمعنى رفض التشخيص القائل إن ما لديهم من مرض قد وصل إلى المرحلة التي تصبح فيها النهاية واردة. هنا فإن المريض ينكر وجود المرض، وغالبا ما يعزوه إلى خطأ في التشخيص أو ربما مؤامرة جعلت نتيجة التحليلات الطبية غير سليمة. وثانيتها الغضب، فبعد أن يصبح الإنكار بلا فائدة تعتري الشخص حالة من الرفض الشديد، ويعتبر أن إصابته بالذات فيها نوع من التعنت، وأنه ربما كان يصح أن يصاب آخرون بما أصيب به. وثالثتها المساومة، فبعد الرفض العنيد فإن بعضا من اللين يأتي في صورة التساؤل، وأحيانا المطالبة، بكسب المزيد من الوقت، والتساؤل عما إذا كان ممكنا تجريب أدوية جديدة يعلم تماما أحيانا أنها غير موجودة. ورابعتها الاكتئاب، وهو حالة من الاستسلام الغاضب والكاره الذي قد يتضمن الانسحاب عن المجتمع والآخرين في العموم، مع حالة عميقة من الحزن. وخامستها القبول والتسليم بالقدر المحتوم والقضاء النافذ، وفيها بعض من الرضا وانتظار ما هو آت.
شاعت هذه النظرية كثيرا خلال العقدين التاليين، واتسعت لكي تشمل كل أشكال «الفقدان»، فالموت ليس هو الحالة الوحيدة، وإنما ربما فقدان الأب أو الأم أو الحبيبة أو منصب كبير، أو حتى مجرد الإحالة إلى المعاش. ولذلك فإن كوبلر وديفيد كيسلر أصدرا كتابهما «عن الحزن» عام 2007، وصدرت منه طبعة أخرى عام 2014، لكي يتناول هذا الإطار في نطاق أوسع.
ألحت عليَّ بشدة أفكار كوبلر وكيسلر خلال الأيام القليلة الماضية التي انشغل فيها كثيرون في مصر وخارجها، بمناسبة مرور خمس سنوات على ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وما ماثلها من أحداث خلال هذه الفترة في دول عربية كثيرة. ما حدث منذ ثورة «الياسمين» في تونس حتى الآن تكشف عن أمور وأوضاع نشاهدها الآن بكل الفزع، بعد انتهاء «الربيع العربي» إلى حالات من الدول الفاشلة، وأخرى غير المستقرة، وثالثة متوجسة تنتظر بخوف وهلع ما سوف يكون. مثل هذه الأمور وما ترتب عليها تناولناه من قبل، ومن المؤكد أننا سوف نستمر في تناوله، ولكن ما يهمنا في المقام هذا، هو ما عرف بجيل الثورة الذين كان مشهدهم الافتتاحي مثيرا للدهشة، وربما الإعجاب، ولكن عمر الدهشة والإعجاب كان قصيرا للغاية حينما توالت خيبات الأمل، وموجات الفزع، وأنهار الدماء؛ ببساطة انتهى الربيع إلى دخان وحريق وانفجارات وقرابة نصف مليون من القتلى، ومليونين وأكثر من الجرحى، و14 مليونا من النازحين واللاجئين.
عند الحديث مع جيل الشباب الذي عرف اللحظات الأولى للثورة بعد السنوات الخمس من البداية تشهد ليس أنهم مروا جميعا بالمراحل الخمس للحزن التي طرحها موبلر وكيسلر، وإنما أن المراحل الخمس متداخلة كلها في آن واحد، حسب الشخص الذي تتحدث إليه والذي قد تغلب عليه مرحلة دون أخرى. فالإنكار بالتأكيد شائع لكل ما ينسب للثورة والثوار من مثالب، فهو دائما من صنع أطراف أخرى، ربما كانوا من العسكريين، أو من الإخوان المسلمين. ولكن أكثر ما يوجع شباب الثورات هو اتهامهم بالتآمر من خلال علاقات بأطراف خارجية. هنا تجد إما إنكارا مطلقا لمسألة التدريب على مقاومة السلطات في صربيا (مذكرات هيلاري كلينتون ذكرت أيضا إستونيا)، أو أن عدد من شاركوا في هذه التدريبات لا يتعدون 6 فقط، وهو عدد من الضآلة بحيث لا يمكن أن تعزى له مؤامرة، أو قيادة عمل تاريخي بهذا الحجم. ولكن الإنكار الأكبر للثوار هو إنكارهم أنهم بعد الإطاحة بالحكام لم يعد لديهم ما يقدمونه، فمن ناحية فإنهم يعتقدون أن ما رفعوه من شعارات عن «العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية» فيه الكفاية؛ ومن ناحية أخرى أنهم لم تتح لهم المدة الكافية لكي يضعوا البرامج للتغيير.
أما الغضب فهو شديد، ولعل أكبر كمية منه فهي لا تزال موجهة للأنظمة القديمة التي ثاروا عليها، فهي رغم سقوطها وهربها ومحاكمتها وسجنها، ظلت هي المسؤولة عن تعثر خطواتهم وفشلهم في النهاية. فالنظام المباركي هو الذي سمح لـ«الإخوان» بالصعود والنمو والعملقة؛ ولم يكن وجودهم مع الشباب في ميدان التحرير، ولا صفقة فيرمونت التي جرت بين الثوار والإخوان لإنجاح الرئيس محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، سببا يمكن ذكره. الغضب ممتد بعد ذلك لكل من اعتبروه مخادعا من المجلس العسكري إلى النظام الحالي في مصر، الذي لا يريد السماح لهم بالتظاهر أينما يريدون ذلك؛ أو هكذا يعتقدون.
المساومة تعددت أشكالها، فمع النظام القائم كان التأييد واكتساب مساحة للنقد والمعارضة وأخذ مسارات إصلاحية متعددة واحدة من طرق البقاء والتعايش، وأحيانا مع قدر من النقد الذاتي، باتت جزءا من الأخذ والعطاء مع النظام القائم. شكل آخر من المساومة أخذ أنواعا للاستقواء بالخارج من خلال الجمعيات الحقوقية تارة، أو تقديم صور سلبية للنظام في الإعلام العالمي، مع الاحتفاظ بمسافة كبيرة دائمة مع الإخوان المسلمين، ومن وقت لآخر إدانة الأعمال الإرهابية مع تحميل النظام مسؤوليتها، لأنه لا يتيح مساحات أوسع للمشاركة السياسية، التي تعني تحديدا التظاهر والاعتصام والإضراب. هنا لا ينقطع الخيط، ولكنه يبقى دائما مع السلطة من ناحية، ومع الشعب من ناحية أخرى، الذي يجري التسليم أنه لم يعد واقفا في صف الثوار، ولكن مع الزمن، والفشل الذي يعتقدونه حتميا، سوف تعود الجماهير إلى جانب من كانوا «مخلصين» لها.
الاكتئاب شائع بشدة، وخاصة بين هؤلاء الذين تزاحمت الأضواء حولهم ثم انصرفت، وبات ما يفكرون فيه مشفوعا بقدر كبير من اليأس. هناك ببساطة «مفيش فايده» ذائعة، فما كان من ثورة كان الفرصة الأخيرة، وما دامت ضاعت فإنها لن تعود مرة أخرى. يضاف إلى ذلك شعور كبير بخيبة الأمل خاصة في الشعب والجماهير التي رفعتهم على الأعناق، ثم تركتهم ولفظتهم، ونسيتهم عندما ذهبوا إلى السجون جنبا إلى جنب من ثاروا عليهم، وفي ذلك توجد دائما حزمة إضافية من الاكتئاب والخوار والنزعة إلى الهروب. ببساطة لم تعد مصر في حالتنا هذه تستحقهم. وفي مقال نشر في «الغارديان» للسيد علاء عبد الفتاح قال فيه إن أكثر ما ندم عليه، كان أنه عندما أتيحت له الفرصة ورفع حظر السفر عنه لفترة قصيرة، لم يستغلها في السفر إلى الخارج، وهو الخيار الذي اختاره آخرون لكي يجدوا في الدول الغربية خلاصا من عالم باتوا فيه غرباء.
القبول قليل، وإذا حدث فإنه لم يكن من بين صفوف الثورة الأولى، وعلى الأرجح أنه شاع فقط بين أبناء الطبقة الوسطى التي لها علاقة بالسوق، وكانت مشاركتهم في الثورة سبيلا للتحرر من الدولة البيروقراطية. وفي النهاية عادوا قابلين لكي يتعايشوا ويبحثوا عن طريق للعمل، والربح.