د. خالد بن نايف الهباس
كاتب سعودي
TT

عندما تدعي إيران الاعتدال

نشرت الصحيفة الأميركية ذائعة الصيت «نيويورك تايمز» مقالاً لوزير خارجية إيران محمد جواد ظريف يتهم فيه السعودية بالتطرف الخطير، وأنها مصابة بما سماه «إيرانوفوبيا»، وهو مقال يحمل في طياته الكثير من المغالطات حول دور إيران الإقليمي، وعلاقتها مع السعودية على وجه الخصوص.
ظريف الذي قضى جزءًا من حياته في الغرب، وخصوصًا في الولايات المتحدة، يعرف جيدًا أهمية الدبلوماسية الناعمة، كما أنه يعرف أيضًا أن شريحة كبيرة من المجتمعات الغربية تجهل حقيقة دول المنطقة، ولا تعرف إلا القليل عن ماضيها وحاضرها، فيما بدأت شريحة أخرى من صناع القرار والنافذين في المجتمعات الغربية تنظر بإيجابية إلى إيران ودورها «المنتظر» على الساحتين الإقليمية والدولية.
المقال أتى محاولة لتخفيف العزلة التي بدأت تلحق بإيران جراء تداعيات الاعتداء على سفارة السعودية في طهران وقنصليتها العامة في مشهد، والتنديد الإقليمي والدولي الذي تلا ذلك. كما أتى أيضًا في سياق أوسع سعت من خلاله طهران إلى تدشين حملة علاقات عامة على المستوى الدولي لتحسين صورتها في العالم الخارجي، خصوصًا بعد التوصل لاتفاق حول برنامجها النووي في يوليو (تموز) من العام الماضي.
إيران حاولت في الفترة الأخيرة إحداث اختراق في علاقاتها الدولية، وذلك بعد أن انتهت من تعظيم نفوذها في المنطقة العربية، واستخدامها أوراق ضغط لزيادة نفوذها وفرض نفسها لاعبًا إقليميًا ودوليًا لا يمكن تجاهله. بمعنى آخر، طهران تبنّت استراتيجية قائمة على ركيزتين؛ خلق وكلاء وحلفاء لها في المنطقة لزيادة نفوذها الإقليمي والعبث في شؤون المنطقة، ثم العمل على تحسين علاقاتها مع القوى الكبرى وتسويق نفسها للعالم الخارجي دولة اعتدال ومُحبة للسلام. ويرى كثيرون أنها حققت نجاحات معينة في هذا الشأن، وأحسنت استغلال الظروف التي مرت بها المنطقة، ومنها غزو العراق عام 2003، وما خلّفه ذلك من فراغ أمني وسياسي، سرعان ما عملت إيران على استغلاله، ثم سعت إلى توظيف تنامي آفة الإرهاب بشكل يخدم مصالحها في المنطقة، وغير ذلك من الوسائل الأخرى التي استخدمتها طهران في سياستها الخارجية.
إن أولى المغالطات التي حملها المقال تمثلت في توصيفه لسياسة إيران على أنها تولي أهمية كبيرة لتعزيز السلم والأمن وإقامة علاقات تعاون وحسن جوار مع دول المنطقة، والإشارة في هذا الصدد إلى مبادرة الرئيس روحاني «عالم مناهض للعنف والتطرف» التي طرحها في الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2013. ظريف هنا يتجاهل تاريخ سياسة بلاده الخارجية منذ 1979، التي بموجبها أصبحت إيران «دولة مارقة»، وإحدى دول «محور الشر» في المنطقة والعالم، وهذا توصيف عالمي لإيران وليس من صنع السعودية. كما أنه تجاهل دور إيران العبثي في المنطقة العربية، سواء احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، أو تدخلها المستمر في الشؤون الداخلية للدول العربية، في البحرين والكويت والسعودية وسوريا واليمن وغيرها، أو نشرها الطائفية والمذهبية ورفض نداءات الدول العربية لبناء علاقات تعاون وحسن جوار.
المقال غالط مرة أخرى بتعظيمه لخوف السعودية من الاتفاق النووي الإيراني، وأنها لا ترغب في تطبيع العلاقات، بقدر ما تريد جرّ المنطقة بأسرها للمواجهة، متجاهلاً أن السعودية وغيرها من الدول العربية سعت دائمًا إلى خلق منطقة خالية من السلاح النووي، ورفضت أي مشاريع نووية عسكرية، مطالبة إيران بإثبات سلمية برنامجها النووي كجزء من الحق الأصيل لأي دولة في الاستخدام السلمي للطاقة النووية. المجتمع الدولي هو الذي عارض برنامج إيران النووي وفرض عليها العقوبات بموجب قرارات مجلس الأمن المتتالية، وأولها قرار مجلس الأمن رقم 1737 (2006)، قبل أن تذعن طهران أخيرًا للمطالب الدولية وتسمح بتفتيش منشآتها النووية وتتخلص من اليورانيوم عالي التخصيب وغير ذلك من المطالب الدولية في هذا الشأن. إيران هي التي سعت عام 2012 إلى ربط المفاوضات حول ملفها النووي بالملفات الإقليمية في المنطقة لتعقيد الأمور، لكن ذلك قوبل برفض المجتمع الدولي. إذا كان هناك تحفظ على الاتفاق النووي مع إيران من قبل أي دولة فهو يدور في خانة أن يكون الاتفاق محكمًا ولا يترك لإيران فرصة أن تصبح قوة نووية كامنة، أو أن تهدد الاستقرار الإقليمي بشكل أو آخر، وهي التي لا تزال تطور صناعة صواريخها الباليستية في تحدّ صارخ للعقوبات الدولية المفروضة عليها.
المغالطة الأخرى هي محاولة نفي مسؤولية إيران عن الاعتداء الذي تعرضت له سفارة السعودية وقنصليتها، بحجة أنها أدانت الاعتداء، وسيتم تقديم المعتدين إلى العدالة، في تجاهل واضح لحقيقة أن قوات الأمن الإيرانية تركت المعتدين يعيثون فسادًا وخرابًا بالمقار الدبلوماسية، ولم توفر لها الحماية بموجب اتفاقيتي فيينا عامي 1961 و1963. وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض لها مقار البعثات الدبلوماسية الأجنبية في إيران للاعتداء، فإيران لها تاريخ طويل في هذا الشأن يعرفه الجميع، لكن الغريب أن يدعي ظريف زيفًا أن السعودية وأوصياءها، حسب زعمه، اعتدوا على المقار الدبلوماسية الإيرانية في اليمن ولبنان وباكستان.
ثم يأتي اتهام السعودية بالإهمال في حماية حجاج بيت الله الحرام، وخصوصًا فيما يتعلق بالضحايا الذين قضوا نتيجة التدافع في منى خلال حج العام الماضي. والحقيقة أن طهران سعت منذ اللحظة الأولى لحادثة منى إلى تسييس الموضوع واستغلاله إعلاميًا لدرجة أن الرئيس روحاني أشار لذلك في مطلع كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2015. المقال تجاهل متعمدًا مسؤولية الحجاج الإيرانيين في تعكير صفو موسم الحج منذ الثمانينات من القرن الماضي، وحتى هذه اللحظة، ومتجاهلاً في الوقت ذاته الخدمات العظيمة التي قدمتها الحكومة السعودية لتيسير أمور زوار البيت العتيق في جميع المرافق.
كذلك تصوير إعدام المواطن السعودي نمر النمر على أنه جزء من النهج العدائي الذي تمارسه السعودية ضد الشيعة، على الرغم من أن إعدامه جاء من بين 47 مدانًا بالإرهاب، الغالبية الساحقة منهم من السنة. واتهام السعودية بقطع الرؤوس، مع أن إيران هي ثاني دولة على مستوى العالم في أحكام الإعدام، وفقًا لمنظمات حقوق الإنسان وبفارق كبير عن السعودية يقارب السبعة أضعاف عام 2015. هنا يتهم ظريف السعودية بنشر التطرف والطائفية، والحقيقة أن إيران ذاتها من زرع الطائفية في المنطقة، من خلال تصدير الثورة بدءًا من عام 1979، حيث لم تعرف المنطقةُ الطائفيةَ قبل الثورة الإيرانية. وظريف يقول ما يقول على الرغم من الخطاب العدائي الذي تنشره إيران في المنطقة ورفضها التخلي عن ذلك، بالإضافة إلى استضافتها لرموز «القاعدة»، وخلقها ودعمها المستمر للميليشيات والجماعات الطائفية في مناطق كثيرة من العالم العربي، وما قامت وتقوم به هذه الميليشيات من أعمال تخريبية في الدول العربية.
وعملاً بقاعدة «واجه الصوت بالصوت» يخيّر ظريف السعودية بين التعاون أو الخصام والتحريض الطائفي، وذلك ردًا على مطالبة الكثير من المسؤولين العرب لطهران بالاختيار بين منطق «الدولة» و«الثورة» و«الأفعال» بدلاً من «الأقوال»، وأن تكون سياسات إيران مبنية على احترام المواثيق الدولية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام مبدأ حسن الجوار.
* مستشار الأمين العام
لجامعة الدول العربية