محمد بن حسين الدوسري
TT

التنديد بمن تباكى وتصدى للأحكام القضائية بالتشغيب والتهديد

إن الأحكام القضائية لها طريق نظامي قانوني تسير وفق إجراءاتها التي قد تم التوافق عليها بين الدولة والمواطنين، وذلك لتنظيم الطرق التي يعرف بها المواطن كيف تسير الأمور القضائية في جميع الأمور ابتداءً من رفع الدعاوى وكيفية الاعتراض على الأحكام ومن ثم طرق الطعن عليها، وهذا ما غفل عنه المطبلون وضلت فهومهم عنه عندما تصدوا لرد أحكام الإعدام القضائية على رؤوس الإرهاب الفكري والإجرامي المادي في السعودية، بأن جعلوا تلك الأحكام القضائية أحكامًا جائرة لا تمثل الشريعة الإسلامية ولا قواعدها، وهذا خلط متعمد بين ما هو مُراد شرعًا ويحمل في طياته مصالح حقيقية ويتوافق مع مقاصد ومصالح الشريعة، وبين ما هو ديني تشريعي قطعي الدلالة وقطعي الثبوت في مسائل المواريث في أصله وأصل الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية واستمداد القواعد والضوابط العامة من أصولها ومقاصدها ومصالحها، وقد تصدى لهذا البيان من أفنى عمره في تفسير كتاب الله وهو العالم الأصولي المفسر الشنقيطي؛ حيث قرر بقوله «قد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا أن النظمَ ليست كُلُّهَا على وتيرةٍ واحدةٍ، بل هي نَوْعَانِ: نظامٌ إداري، ونظامٌ شَرْعِيٌّ. أما النظامُ الإداري الذي لا يخالف نصوص الشرع، بل قد تشهد أصول الشرع للمصلحة فيه، فهذا ليس أحد يقول: إنه كفر، ولا حرام، والصحابة (رضي الله عنهم) جعلوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أشياء كثيرة من هذا، ولم يقع بينهم فيها خلافٌ، مثل ديوان العسكر وما يتعلق به فكتبَ أسماء الجندِ في ديوانٍ. فهذا نظامٌ عسكري لَمْ يَفْعَلْهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكرٍ، ولكنها مصلحةٌ محضةٌ لا تُخَالِفُ نَصًّا من كتابِ اللَّهِ ولا سنةِ نَبِيِّهِ، فهي مصلحةٌ عَمِلَهَا عمرُ بنُ الخطابِ، ولم يُخَالِفْ أحد من الصحابةِ مع كثرتِهم وَعِلْمِهِمْ. ومن هذا المعنى - السجنُ - وهو مصلحةٌ إداريةٌ لم تَكُنْ في زمنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبي بكرٍ، والقصدُ مطلقُ التمثيلِ. فهذا النوعُ من ضبطِ الأمور وتنظيمِ الإدارة بما لا يخالفُ نَصًّا من كتابِ اللَّهِ ولا سنةِ نَبِيِّهِ، فهذا لا نقولُ: إنه كُفْرٌ، ولا نقول: إنه حَرَامٌ. وهو من المصالحِ المرسلةِ التي عَمِلَ بها الصحابةُ، ولم يُخَالِفْ منهم أَحَدٌ، وكان مالكٌ يجعلُ هذا النوعَ أصلاً من أصول مَذْهَبِهِ، وهو (الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ) قال: لأن الصحابةَ أَجْمَعُوا عليه؛ لأن أفضل الصحابةِ بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، عَمِلَ بالمصلحةِ المرسلةِ والحاصلُ أن النظامَ نوعانِ: نظامٌ لا يَتَعَرَّضُ لقواعدِ الشرعِ، وإنما هو تنظيمٌ مَصْلَحِي لاَ يتعرضُ للقواعدِ، فهذا هو الذي ذَكَرْنَا أنه لاَ بَأْسَ به، وأن الصحابةَ فَعَلُوهُ. والثاني: نظامٌ تَشْرِيعِي، وهو الذي فيه إحكام حكم من حكم بغير ما أنزل الله وتفصيلاته الكثيرة والعميقة». ثم عززوا ذلك الخلط المتعمد بين الفتوى والأحكام القضائية، فالأحكام القضائية تختلف اختلافًا جذريًا عن الفتوى، وذلك أن الأحكام القضائية تفصل في النزاعات بين الأفراد وبين المؤسسات وبين الدولة بجهاتها الحكومية وبين العاملين فيها وبين جهات الدولة سواءً كان ذلك في القضاء المدني الشرعي أم كان ذلك في القضاء الإداري، وسواء كان النزاع مدنيًا عاديًا أم كان نزاعًا تجاريًا أم كان نزاعًا إداريًا، وهذا الخلط هو الذي أنتج بأن تُنزل الأحكام القضائية منزلة الفتوى، وهذا الخطأ الجسيم والخلط بين الأحكام القضائية في أحكام القتل والحدود والتعزير والفتوى ينتج عنه أخطاء مركبة ومتراكمة، وذلك أن قاضي الموضوع هو من ينظر في الأدلة والبينات ويُكيف الوقائع ثم يُنزل البينات منزلتها ويزن الأدلة ثم يطبق النصوص الشرعية أو النظامية على الوقائع ثم يصدر حكمه الابتدائي ثم يذهب هذا الحكم إلى محاكم الاستئناف فتنظر القضية بأكملها وتجري نفس الإجراءات التي قام بها قاضي الموضوع الابتدائي وتتحقق من كل إجراء وكل نظر قام به قاضي الموضوع وتزن حكمه وفقًا لمطابقته الوقائع والبينات والأدلة، ثم تصدر حكمها إما بالموافقة على حكم قاضي الموضوع وإما بالنقض الكلي أو الجزئي، وبعد ذلك يذهب الحكم إذا ما تمت الموافقة عليه إلى المحكمة العليا وهي السلطة القضائية العليا التي تنظر في الحكم من جميع جوانبه وتتحقق من موافقة تلك الأحكام القضائية لأحكام الشريعة اليقينية وموافقتها لمقاصد الشريعة ومدى مطابقتها للأنظمة واللوائح، ومن ثَم تُصدر حكمها إما بالموافقة وإما بالنقض وإعادة القضية إلى محكمة أخرى كي تُنظر من جديد، وتلك المحاكم يتوجب أن تكون مؤلفة من ثلاثة قضاة فأكثر، وذلك ترسيخًا وتحقيقًا لمبدأ العدالة، مما يوضح أن المنتقدين لتلك الأحكام القضائية يتكلمون بلا علم سواء في الشرع أم الواقع المعاصر، بل هم يعيشون في خيالاتهم وأوهامهم منذ وقت وزمن ليس بالقصير؛ حيث دأبوا على النقد غير العلمي ولا الواقعي لكل ما يصدر عن هذه الدولة المباركة التي قد أذهلت العالم بصمودها في وسط جغرافيا ملتهبة بالصراعات.
أما التسوية بين دولة راسخة قد ضربت بأسسها وأركانها في أعماق التاريخ منذ أكثر من ثلاثة قرون وبين ما يرتكبه مجموعة أفاكون أفاقون مجانين من جرائم وفظائع بحجة شبهة فقهية بأن لولي الأمر قتل ثلث الشعب، فهذا خلط متعمد بين علماء أفنوا أعمارهم في مطالعة ومراجعة وقراءة وتفسير الشريعة الإسلامية، وقد تتلمذوا على العلماء واتبعوا الطريق التقليدية في تلقي العلوم، وكذلك الطرق المعاصرة في الحصول على العلوم والتدريس في كليات الشريعة ومعاهد القضاء، وكذلك هذا خلط متعمد وفيه قصد خبيث بجعل الأحكام القضائية هي فتاوى ونشر ذلك بين الناس، وإلا فإن ما قامت به الدولة السعودية هو تنفيذ لأحكام القضاء التي تجرى بطرق نظامية وإجرائية كثيرة ويتم تمحيصها من قبل جهات قضائية متعددة، وهذا معمول به في جميع دول العالم، بل إن أحكام القتل والقصاص يشترط لها النظام أن تكون بإجماع القضاة، وهذا من أقصى وأعمق طرق العدالة.
أما قضية قتل ثلث الشعب والتجويز لها، فلم يقل بها أحد من علماء السعودية المعتبرين، ولا صدر في ذلك حكم قضائي، فالتشغيب بذلك على الدولة السعودية هو طريق الضعيف الحاسد الحاقد، وتلك مقولة قد نُسبت لإمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه «غياث الأمم في التياث الظلم»: «ثم التعزيرات لا تبلغ الحدودَ على ما فصله الفقهاء، وما يتعين الاعتناءُ به الآن، وهو مقصود الفصل أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تستند إلا على رأي مالك رضي الله عنه، وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوّغ للوالي أن يقتل في التعزير، ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها»، وهي قضية تم إنكارها على الإمام أبو المعالي الجويني ولم تصح نسبتها للإمام مالك، إلا أن كثيرًا من الدول المعاصرة والأنظمة والدساتير تنص حرفيًا بوجوب المحافظة على كيان الدولة واستقرار المجتمع من كل ما يُهدد سلامته من أية مخاطر سواء كانت خارجية أم داخلية، وبغض النظر عن تلك المخاطر من حيث موضوعها وحقيقتها سواء كانت أمنية أم ثقافية أم صحية، فيتوجب على الدولة ومن يعيش في كنفها تحقيق استتباب النظام العام بشتى عناصره، وهذه قواعد وأركان لتحقيق وترسيخ الدولة المعاصرة.