سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

كبير الجلادين

استمع إلى المقالة

آخر ما قرأت من كشوفات عن عذابات العهد السوري السابق، كانت الروايات المريعة في اللقاءات التي أجراها الزميل رئيس التحرير مع مدوِّن الوثائق الرهيبة، الذي أعطى نفسه الاسم المستعار «سامي». بعد انتهاء الحلقات، اتخذت قراراً، لا أدري إن كان شجاعاً أم جباناً، هو أنني لن أقرأ بعد الآن أي شيء عن مظاهر الوحشية التي أُغرقت فيها سوريا طوال نصف قرن أو أكثر. فما قرأته من سادِيّاتٍ لا تُصدَّق يكفي 20 رجلاً و20 عقداً، ولعل في هذا ظلماً للضحايا وأهاليهم، ولسوريا نفسها، ولكنني أعترف بأنني لا أقوى على احتمال تصور البشر وهم على هذه الصورة.

يقول المدوّن «سامي» إن العقاب الأكبر يجب ألا يُنزَل بكبار الضباط؛ وإنما بصغار الجلادين الذين يبالغون في تنفيذ الأوامر، ويخترعون أسوأ أنواع التعذيب، ويرتكبون أفظع أنواع الجرائم، بحجة أنهم ينفذون أوامر لا دخل لهم فيها.

عذراً مما قد يبدو تباهياً أو افتخاراً وسط غابات الموت وأدغال الجراح، لكنني منذ سنوات طويلة وأنا أكتب في هذه الزاوية أن المجرم الأكبر في حقل القتل والتعذيب العربي، هو الجلاد الصغير. فهو الذي يقبل ويرتضي، وأحياناً يتحمّس، أن يكون أسوأ أدوات القتل البطيء والجريمة الجماعية. وفي نهاية كل يوم يعود إلى منزله هانئاً سعيداً ليتناول العشاء مع أطفاله، وربما ليروي لهم أيضاً، بكثير من المفاخرة، والتلذذ، عن بطولات ذلك النهار في سبيل أسياده ومعلميه. والأرجح أنه كان هناك سباق دائم بين الجلاوزة والقتلة المكلفين بشأن مَن يجيد أكثر من غيره طرق العذاب وهدر الكرامة البشرية، وخلط الدماء بالعظام. وربما يكون صاحبنا الأكبر يستعيد الآن في منفاه صور ما كان يأمر به.

مرّت ألمانيا ودول أوروبية أخرى بمثل ما نمرّ به الآن. ناس تُحمّل الأبرياء والمرتكِبين المسؤوليةَ نفسها. وأصبح اسم ألمانيا رديفاً لـ«الفراعات» التي لا يتصورها أحد. غير أن عدداً كبيراً من «الألمان»، أو الفرنسيين، أو السوفيات، كان بين الضحايا؛ ولذلك أُنشئت محاكم دولية خاصة، مثل محكمة نورمبورغ، يقاضَى أمامها المذنبون، ويبرَّئ فيها الأبرياء. ربما أفضل ما تفعله سوريا الجديدة الآن هي إقامة محاكم مشابهة، يُفرَز خلالها مَن أساء إلى الدولة والوطن والشعب، ومَن يمكن أن يكون له عذر شرعي في هذا الظلام الكبير. لكن حقيقة واحدة تبقى بغير حاجة إلى تأكيد، أو إلى إعادة تأكيد، هي أن المجرم الأكبر هو الجلاد الأصغر.