منذ طفولة التفكير السياسي في أثينا قبل ثلاثة آلاف سنة، وبمنهجية الأطفال الجدلية طرح سقراط سؤاله المرتعش عن مدى أهمية علم السياسة في إنتاج أكثر نظم الحكم عدلاً وإنصافاً للبشرية، وهو تساؤل يفضي إلى سؤال آخر يرتبط بمدى أهمية علم السياسة الذي يحظى بدعم واسع وشعبية عريضة في الدول المتقدمة. ولأن رايات العدل لا تكون خفاقة إلا داخل قلاع المدن المستقرة أمنياً؛ لذلك أبحر سقراط في رحلة بحثه الفلسفي عبر قارب الفضول المعرفي لفهم ودراسة كل الظواهر السياسية التي تهدد الشروط الأساسية للأمن والاستقرار السياسي، وتُحطمُ محراب العدالة المنشودة في المجتمعات البشرية. وكالصياد الماهر الذي يختار بعناية منطقة صيده بالبحار، ألقى سقراط بشبكة ملاحظاته العلمية على أهم القضايا السياسية المهددة للعدالة وللاستقرار الأمني للدول. وأمست هذه القضايا من أهم مواضيع علم السياسية التي يدرسها طلاب العلوم السياسية حتى اليوم، كظواهر الحروب، والسلام، والعنف، والثورات، والصراعات الأهلية، والقضايا المرتبطة بالنماذج المتنوعة بطبيعة النظم السياسية، وبالحرية، والمساواة، والحقوق، والعدالة، والمكانة السياسية للمرأة، والكثير من المواضيع الأخرى.
واكتشف قبطان العقل السياسي سقراط من رحلة بحثه الطويلة بأن العدالة هي كالقمر مجرد انعكاس لضوء شمس المعرفة والعلم، وبأن نور المعرفة هي الفضيلة الوضاءة التي تبدد عتمة جهل القادة السياسيين. فالجهل عدو العدالة، والقائد السياسي المعادي للعلم والمعرفة سيرغم مجتمعه على السبات طويلاً في كهوف واسعة من التخلف والانكفاء على النفس. ولذلك اشترط سقراط وضع مركبة المعرفة أمام صهوة جواد أي قائد سياسي يتطلع للوصول إلى السلطة، ومزاحمة الحكام والقادة السياسيين. ومن فوق سرج هذا الجواد العابر ازدرى سقراط الديمقراطية لأن فوق تربتها تنمو ثمار الغوغائية والشعبوية والعنصرية وبواسطة سُلَّمِها الانتخابي يرتقي الأثرياء والفاسدين والجهلة، ولا تتاح الفرص السياسية فيها للأكثر معرفة وفضيلة ووعياً. ولأن رياح هذه النظرية السقراطية كانت قد هزت مؤسسات الديمقراطية في أثينا، فكان مصيره الإعدام بتجرع كأس السم من فوق مسرح الضمير الإنساني. وكان سقراط المدافع عن العدالة هو ضحية الظلم الديمقراطي، وأول شهيد للوعي والمعرفة السياسية في التاريخ الإنساني. وأوجع منظر هذا الموت الكئيب قلوب تلاميذه ورفقاء مسيرته ودربه، وخلَّفَ مقتله شرخاً ما زال يدمي أقلام كتاب وباحثي الفكر السياسي.
ولأن تحصين الوعي السياسي لسقراط كان نواة الاستقرار الأمني والاجتماعي للمعمورة الإنسانية، وأي تصدع داخل تركيبة هذه النواة الفكرية فإن زلازل الحروب وبراكين الفوضى والانفلات الأمني سيكون أمراً مقضياً؛ لذا قرر تلميذه أفلاطون أن يستمر في التنقيب عن كنوز علم السياسة من داخل تراث معلمه سقراط. فاستخرج من داخل أعماق هذا التراث قاعدته الذهبية المشعة التي أكدت بأن الأمم لن تنجو من الدمار وتتحرر من شبح الخوف حتى يصبح «الملوك فلاسفة، أو الفلاسفة ملوكاً» في مدينة جمهوريته الفاضلة؛ لأن الفيلسوف هو الأكثر نضجاً في وعيه السياسي والأقرب إلى فهم قوانين الطبيعة الكونية والبشرية. وفي كتاب «الجمهورية» أزاح أفلاطون العسكر والجنود، وصناع الحرف اليدوية، وأصحاب الثروة من فنون إدارة الحكم، وأغلق مزاليج أبواب الدخول إلى عالم السياسة حصراً على الفلاسفة؛ لأن طبائع نفوس العسكر تجرها خيول العاطفة، في حين تعصف شهوة الربح والمال بوجدان التجار، بينما تستقر وتهجع روح الفلاسفة باللذة العقلية. فالعقل، من منظور أفلاطون، هو ميزان الحكم السياسي الرشيد، ومن دون لجامه لن تُكبح شهوة تاجر، أو تهدأ غضبة عسكري متهور يقودان الدول إلى مصير مجهول وفتنة دائمة. ومن سحابة هذا التصور الفكري أطلق أفلاطون صواعقه المرسلة على المؤسسات الديمقراطية التي كانت سبباً في إزهاق روح معلمه سقراط، والتي استمدت شرعيتها من العدد الكمي للجماهير الغوغائية وليس من الكيف المعرفي للعقلاء وأصحاب الحكمة، وقدست ممارساتها المال والقوة بدلاً من الانحناء في محراب الأخلاق والفضيلة والعلم، فقال: «أليس من المخزي أن يقوم على حكم الشعب الخطباء الذين يضيّعون وقتهم في خطبهم الطويلة كالأوعية النحاسية التي إذا دقت وقرعت تستمر في الدق والقرع إلى أن نضع أيدينا عليها ونوقف دقها».
وإن كان أفلاطون قد حلَّق في سماء المثالية السياسية واعتكف في البروج العاجية لحكم الفلاسفة، إلا أن تلميذه أرسطو هبط بسحابة هذا العلم على أرض واقعه التجريبي. ومن حسن طالع أرسطو أن شبابه كان قد أفناه في أول أكاديمية شهدتها الإنسانية أسسها معلمه أفلاطون بعد أن أضناه وصبّ حلمه الثقيل في صناعة الفلاسفة الملوك وحصر علم السياسة في هذا الفن. وبعد أن أنهك أفلاطون ذاته في رفع هذا الحلم فوق كتفي شبابه، أرغمه تعب المثالية عند شيخوخته بأن يلقي بكل حمولته الذهنية فوق أرض الواقع السياسي بعد أن كبر بالسن وشاخ به الدهر فقال: «إنني أكتب أفكاراً مثالية لمجتمع غير مثالي». وكانت نتيجة ارتطامه بالجدران الصلبة لوعي مجتمعه اضطراره إلى الهبوط من سماء المجردات المثالية إلى الأرض الحسية للواقع، فتواضع بتفكيره وأطروحاته السياسية في كتابيه «السياسي» و«القوانين» بما ينسجم مع مستوى وعي الجماهير والغوغاء.
من جهة أخرى، كانت قد تكسرت أجنحة شيخوخة أفلاطون المثالية أمام رياح إعصار النقد التجريبي الذي أطلقه تلميذه أرسطو على تراث معلمه. ولأن مشرط التجربة الحسية كان أداة العلم التي شرَّح بها أرسطو كل الظواهر السياسية فوق طاولة الواقع المادي؛ لذلك وظَّفَ حواسه لاكتشاف منهج علمي واقعي وجديد. وكان المنهج المقارن هو مولوده الأول الذي زف بشرى ولادته إلى خبراء المناهج والأبحاث العلمية. فقارن بشكل منهجي ومنظم 158 دستوراً لدول متباينة في حضارتها وثقافتها؛ بهدف توليد أفضل نظام للحكم من رحم الواقع السياسي بدلاً من التحليق في شطحات التأملات المجردة والخيالات الواسعة. فلم تستهوِه فكرة أفلاطون عن هبوط وحي العقل السماوي على الملك الفيلسوف المراد منه الوصول بالبشرية إلى ضفاف الحكم السياسي العادل، ولم يشتط به التمني أو يستبد به الخيال للتحليق في سماء الفضائل الأخلاقية بعيداً عن حسابات القوة السياسية التي تجذب كل هياكل المعرفة والقيم الآيديولوجية إلى نواة دائرتها المنطقية الضيقة، وتُطبِقُ على التعاليم الأخلاقية بين أنياب مصالحها ومنافعها القاسية التي لا ترحم. وأعلن أرسطو للعالم أن الدستور المختلط هو الأرض الصلبة التي يُشيدُ فوق نصوصها كل مؤسسات الحكم الرشيد، ومزج الفرد بالأقلية والمجموع في هياكل رسمية للدولة وباعتبار هذا المزج المؤسسي هو سر خلطة نموذج الحكم العادل لتحقيق المصلحة العامة، وسر بقاء وديمومة المؤسسات الدستورية حية لا تموت في حين أن الأفراد فانون وزائلون.
وبعد انهيار أثينا، احتضر العقل السياسي لبضعة قرون حتى بُعثَ من جديد بوصفه مطية للتكليف العقائدي للمسيحية على أيدي كهنتها الذين جعلوا السياسة «نظرياً» تابعة للدين، والإيمان سيداً على العقل، والدولة أداة للكنيسة. ولم يختلف مشهد الإرادة المسيحية في حبس شهوة انفلات السياسة من قيود الضوابط الدينية كثيراً عن منهجية تفكير بعض علماء المسلمين. فالغزالي اعتبر «السياسة أشرف علوم الدين». وفي الضفة الأخرى كبح ابن تيمية جموح السياسة داخل إطار «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية». وتابع رحلة سقراط في تساؤلاته عن العدالة، واستنتج أنها سابقة على الكفر والإيمان، وشرط للحكم العقلاني الرشيد، ومقياس للعزة والنصرة قائلاً: «يعز الله الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويذل الله الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة». وأعاد إنتاج هذه القاعدة الأخلاقية في صيغة مقاربة تلميذه ابن القيم بالقول: «حيثما وُجدت المصلحة فثمة شرع الله». وتباهى ابن خلدون في مقدمته بأنه اكتشف الشروط والقوانين الموضوعية لنشوء وانهيار الدول أو التجمعات العمرانية.
بيدَ أن مصاهرة السياسة بالأخلاق، واقتران العقل بالإيمان انتهيا مع إعلان عراب السياسة الواقعية ميكافيلي بمنتصف القرن الخامس عشر عن طلاق السياسة من كل المنظومات العقائدية، محرراً السياسي من كل قيود الألعاب الميتافزيقية والأخلاقية؛ لأن الغاية السياسية، حسب تصوره، تسوغ توظيف كل الوسائل المتاحة والممكنة. وأشرقت شمس التنوير الأوروبي على نظريات العقد الاجتماعي. فحطم هوبز ولوك وروسو الأصنام المسيحية المزيفة التي جثمت فوق العقل السياسي لقرون طويلة، وانتزعوا التاج المقدس من فوق رأس البابا وألبسوه للملك والحاكم السياسي الذي شرعوا له احتكار الصولجان بيد والسيف باليد الأخرى. ومهَّدت مؤلفاتهم عن السياسة المدنية الأرضية الخصبة لاستزراع مفاهيم الدول المستقرة، واستنبات نظريات القوانين الطبيعية وقيم الحرية والمساواة والليبرالية، ليحصدوا ثمار وعي سياسي مفارق للتاريخ في الصورة والمعنى ما زال مستمراً حتى اليوم. ومنذ القرن العشرين وحتى هذه اللحظة، حمل شعلة هذه النظريات السياسية علماء سياسة كبار كمرغنثاو، وكيسنجر، وبريجنسكي، وهنتنغتون، وفوكوياما، وجوزف ناي، وكينيث ولتز، وغيرهم الكثير من الذين درسوا قضايا الحروب والسلام، والأمن الدولي والوطني، ومفهوم الدولة، والعقائد السياسية، والعنف، والإرهاب، وفشل الدول، والسياسات الخارجية، والانتخابات، والديمقراطيات، وأنظمة الحكم المتباينة، والإعلام السياسي، والاقتصاد السياسي، وعلم النفس السياسي، ومواضيع سياسية كثيرة ومتنوعة.
طبعاً، أنهارُ وينابيعُ هذه المواضيع السياسية المتنوعة تتدفق كلها في القنوات غير الرسمية لجمعيات العلوم السياسية التي تلعب دوراً رئيسياً في حصاد كل هذه البذور المعرفية، والتي توجه بوصلة الوعي السياسي نحو أهمية مرافئ السلام، وروضة الاستقرار الأمني، وبقاء الأوطان، ومناقشة كل الظواهر السياسية التي تهز رواسي الدول، وتهدد ثوابتها، وتعكر صفو أمنها. والجمعية الوطنية للعلوم السياسية بالمملكة العربية السعودية ستكون شعلة التنوير في الفكر السياسي، وملتقى العقول التي تشع منها كل المبادرات والمشاريع الفكرية والأبحاث الأكاديمية، وميناء لكل قوارب الباحثين عن الحقيقة، ومحفلاً لاستضافة المؤتمرات والندوات العلمية والعاملين بالشأن السياسي والأمني، ومركزاً للتدريب لكل المتطلعين لصقل مهارات التحليل السياسي وفهم تشابكات الظواهر السياسية بالقضايا الأمنية. وكل عضو مشارك في هذه الجمعية سيكون بمثابة خلية حية تنبض بالحياة داخل جسدها التي تنتعش وتحيا بمشاركاتهم وانتمائهم لها.
* رئيس الجمعية الوطنية للعلوم السياسية في السعودية