د. عبد الله فيصل آل ربح
أكاديمي سعودي, أستاذ مشارك لعلم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية جراند فالي الأميركية, وزميل أبحاث غير مقيم بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة. نشر العديد من الأبحاث المحكمة في دوريات رصينة, إضافة لنشره لعدة دراسات في مراكز الفكر بواشنطن. ومن أهم إصداراته كتاب «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو: تغطية المملكة في القرن العشرين»
TT

دراما أبو ماضي

استمع إلى المقالة

امتاز الشاعر المهجري الشهير إيليا أبو ماضي بخاصيتين ميزتاه من كثير من الشعراء المعاصرين؛ الأولى تساؤلاته التأملية التي لا تعرف الحدود، ومن أبرز أمثلتها قصيدة «الطلاسم». والثانية تشبيهاته الدرامية التي تخلق حيوية في النص ترتفع به عن التقليدية التي سادت في بدايات القرن العشرين، ومن أبرز أمثلتها تلك الأبيات التي يرددها كثير من الناس دون أن يعرفوا هوية قائلها - أبو ماضي - وهي:

إن حظّي كدقيق فوق شوك نثروه

ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه

فلو نظرنا لهذين البيتين من ناحية فنية، فهما من الناحية البلاغية مجرّد تشبيه. ولكن بتعميق النظرة سنجد أن الكفتين غير متوازنتين، فالمشبه (حظّي) يواجه غولاً هو المشبه به (بقية البيتين) وهذا ما يختلف عن تشبيه التمثيل الذي يشبه حالة بحالة (مشهداً بمشهد). هنا ينصرف ذهن القارئ عن المشبه/الغارق إلى المشبه به/الخضمّ الذي يدخل سلسلة من التوهان والتعاطف مع الحالة، رغم أن المعنى المراد مستهلك جداً! فالشاعر يريد أن يوصل لنا رسالة مفادها أن حظه بالغ التعاسة إلى حد اليأس. ورغم الصور الحسية التي استخدمها أبو ماضي؛ الدقيق المنثور فوق الشوك/الحفاة الذين يجمعونه/الريح، فإن المزاوجة بينها قد أحالت المستهلَك إلى جديد!

لقد بدأ البيتان بتشبيه عادي بين شيئين الحظ/الدقيق، إلا أنه قد نجح في صرف ذهن المتلقي عن الطرف الأول ليحوّله للطرف الآخر ليعود به - دون أن يشعر - للتعاطف مع الطرف الأول! المتلقي هنا يتعاطف مع الطرف الأول (الحظ) بصفته مظلوماً، ليس لأنه مجرد حظ تعيس، بل لأنه قد غرق في بحر الطرف الآخر (الدقيق) الذي جاء في الأساس ليخدمه، فإذا هو يسرق الأضواء منه!

أراهن على أن معظم من قرأ هذين البيتين ركّز جلّ تفكيره على الدقيق ثم تنبّه بعدها للحظ ليهبه بعضاً من تعاطفه ثم يمضي وليس في الذهن سوى صورة الدقيق. أما ذلك الحظ التعيس فليس له إلا أنه قد تحوّل إلى ذريعة لذكر هذه الصورة الدرامية التي تثير في ذهن المتلقي الاشمئزاز من الأشغال الشاقة التي حُكم بها على الحفاة بفضل ذلك الدقيق.

ولنتذكر معاً قصيدة أبو ماضي الشهيرة (المساء)، والتي يقول في أحد مقاطعها:

إنّي أراك كسائح في القفر ضلّ عن الطّريق... يرجو صديقاً في الفلاة، وأين في القفر الصديق... يهوى البروق وضوءها، ويخاف تخدعه البروق... بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام... لا يستطيع الانتصار... ولا يطيق الانكسار.

بعد الكافين - الضمير المتصل المشبّه به وحرف التشبه - يُطلق أبو ماضي العنان لمشهد درامي بطله المشبّه به (السائح) الذي يبتلع ك المخاطبة/سلمى؛ بطلة النص، والتي يدور مجمل النص حولها!

يسترسل في وصف الحالة: في القفر (وحدة)

ضلّ عن الطريق (وحشة)

نجد بعدها شيئاً يبدو للوهلة الأولى شرحاً تقريرياً للحالة، حينما يقول:

يرجو صديقاً في الفلاة، وأين في القفر الصديق

من الممكن نعت هذا البيت بالحشو حين نقرأ البيت التالي بطريقة تقريرية:

يهوى البروق وضوءها، ويخاف تخدعه البروق

ولكن هل هذا هو المأمول من شاعر معروف بتأملاته؟

ماذا سيحصل لو تعاطينا مع المقطع بوصفه بنية واحدة وليس مجرّد أبيات متفرقة؟

ماذا لو حاولنا المزاوجة بين البيتين المتتاليين:

يرجو/يهوى (فعل مضارع يدل على الرغبة في)

صديقاً/البروقَ وضوءها (مفعول به يدلّ على المرغوب فيه)

وأين في القفر الصديق/ويخاف تخدعه البروق (الصوت الداخلي لفاعل الرغبة في).

هنا نلتمس أن القفر ليس مجرد الصحراء المقفرة التي لا تحتوي على الحياة فهو يرجو (صديقاً) وليس (رفيقاً)، فما يبحث عنه شيء متميز على الأرض كما هي الحالة في البيت الثاني (البروق وضوءها) شيء متميز في السماء.

إن النصّ يسير في حالة من التأمل في الخيار الصعب، وهذا ما تشير إليه خاتمة المقطع:

بل أنت أعظم حيرة من فارس تحت القتام... لا يستطيع الانتصار... ولا يطيق الانكسار.

هذه الصورة وإن بدت بسيطة وتقريرية مباشرة، فالفارس تحت القتام (غبار الحرب) عندما يواجه معركة قوية ترهقه لدرجة أنه يواجه أحد مصيرين لا ثالث لهما: الانتصار/الانكسار. لم تأت هذه الصورة وحدها، ولو كان ذلك لكانت نظماً وليست شعراً. لقد جاءت هذه الصورة تحديداً في ختام المقطع لتكمل مسيرة الثنائيات المتقابلة لتنير للمتلقي طريق قراءة النص.

وعليه لو بدأنا القراءة من جديد فسنجد أن المعنى قد فُتح لنا من جديد من خلال صورة الفارس الذي جاء مشبّهاً به للضمير المنفصل/أنتِ، لينير لنا الصورة السابقة للسائح الذي جاء مشبهاً به للضمير المتصل/كاف المخاطبة.

ونعود مرة أخرى لنشهد صورة يستعطفُ فيها الشاعرُ المتلقيَ لصالح ذلك الفارس الحائر، استحوذت صورته على ذهن المتلقي، وإن كان مجيئه - أساساً - لتبيين حالة الحيرة عند سلمى، ولكن أبو ماضي يأبى أن يخرج نصه عن الطريق الذي رسمه منذ البداية.

هذه لمحة من لمحات الشعر في العصر الحديث، والتساؤل هنا: لماذا انحسر الشعر المراوغ الذي يعطيك التلميح تارة والتصريح تارة أخرى ليحل محله الشعر الذي يصر على مراوغتك طيلة الوقت؟!

أعتقد - وإن كنت أحب قراءة الصنف الآخر من الشعر شديد المراوغة - أن الشعر الذي يراوح بين التصريح والتلميح هو الأقدر على مخاطبة المتلقي العادي، ولعل في اتجاه القارئ العربي للرواية ما يدلل على ذلك؛ فالرواية تصرّح تارة وتلمّح أخرى، فهي لا تستسلم للقارئ من الوهلة الأولى، ولكنها في الوقت نفسه لا تجعله يلهث وراءها لينتظر من يكشفها له.