هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

لا تدافعوا عنا.. و«فضوها سيرة»

ساقتني صدفة مؤخرًا، لأكون أحد المستمعين لما يتداوله الباحثون في منتدياتهم، بعد اعتزال اختياري طال بعض الشيء، فإذا بالحديث كما تركته منذ سنوات: رصين وجاد وذو شجون.. لكنه في مجمله لا يعي اللحظة التاريخية الحادة التي يحياها الإنسان العربي، ولا أبالغ إن قلت إنها لحظة فارقة في تاريخ البشرية بشكل عام.
الصدفة الأكثر دلالة أن المتحدثين على منصة الكلام كانوا ثلاثة باحثين: لبنانية ومغربية وكويتي، فيما يستمع (نخبة) من المثقفين المصريين والسودانيين والتونسيين وغيرهم، بما يجعل تأمل اللحظة دالا جدا، وكأنهم حالة للدرس.. ولن أقول أين، فالمكان ليس دالاً بقدر دلالة ما تقدم ذكره. الهدف من الاجتماع/ المؤتمر كان النقاش حول مستقبل الفنون..
في الدقائق التي جلستها، اختلف الجالسون حول عبد الناصر، ومدى أهميته، وهل ما صنعه أخطاء أم خطايا، فيما كادت إحدى الباحثات تشكره لأنه لم يمنع أم كلثوم، وكأنه كان يستطيع. أو كأنها فضيلة يشكر عليها حاكم.
لا أدري كيف يمكننا أن نفهم مستقبل عالم يتغير بشكل مخيف كل ثانية، فيما نقف مختارين مستمتعين عند لحظة تاريخية أظلمت تمامًا منذ خمسة وأربعين عامًا؟ أنا أحب عبد الناصر بلا شك، رغم ملاحظاتي الكثيرة عليه وعلى فترة حكمه، لكن عبد الناصر نفسه تم تجاوزه كثيرًا ولم يعد يجدي أن نحكم عليه بالخطأ أو الصواب.
أما الأمر اللافت حقاً فكان انزعاج ناشطة مغربية (السيدة نجيمة طاي طاي وزيرة محو الأمية السابقة في المغرب) وكان انزعاجها مبالغًا فيه، عند ذكر استغلال النخبة المثقفة للمأثورات الشعبية وحامليها، واستغلال النخبة (العالمة) للثقافة الشعبية أمر شائع في المجتمعات العربية، بداية من النهب من الموروث الشعبي دون ذكر ودون علم، مرورًا بتسجيل ما لدى الإخباريين والرواة دون احترام، وانتهاء ببيع معارفهم التقليدية وخبرتهم لبيوت خبرة عالمية دون مردود على أصحاب الخبرة أنفسهم..
انزعجت السيدة نجيمة وكأنها لا تعلم بحجم التمويلات التي تتقاضاها مؤسسات المجتمع المدني العربي من الحكومات العربية (الخليجية) والأجنبية (الأوروبية) تحت زعم توثيق هذه المأثورات وحمايتها وحماية حامليها، فيما النتيجة كما نرى في عالمنا العربي؛ لا توثيق ولا حماية، بل موت هؤلاء الفنانين من دون أدنى اهتمام حكومي أو احترام من النخبة العربية (العالمة).
لقد انبرت طاي طاي للدفاع عن النخبة وأنها لا تستغل الثقافة الشعبية وحامليها، ربما أكثر من دفاعها عن نفسها حين اتهمت بالتطبيع مع إسرائيل منذ نحو عشر سنوات حينما تعرضت لحملة في المغرب على خلفية ترحيبها في مؤتمر دولي بمن سمتهم «الإخوة الإسرائيليين» على حد قول من اتهمها من الإخوة المغاربة، أو من دافع عنها من محازبيها.
كان كلام السيدة طاي طاي مثل كلام كل النخبة العربية عند الكلام عن التراث الشعبي العربي: يجب أن نرعاه ونوثقه ونرعى حامليه، حتى نحافظ على هويتنا.. يا سادة وهل هوية العالم العربي تنتظركم لتحافظوا عليها؟ وهل أضاع الأمة العربية غير مثقفيها ونخبتها؟
إنني في الحقيقة لا أرى داعيًا لاهتمام النخبة (العالمة) بالثقافة الشعبية في العالم العربي؛ فلها حاملوها والمدافعون عنها، أقصد المواطنين البسطاء.. ومن يريد خيرًا بثقافتنا عليه أن يدعو لاحترام الإنسان العربي في بلده.. الإنسان: مستهلك هذه الثقافة.. عندها فقط يمكن أن نسمع فنًا شعبيًا وندرس ثقافة شعبية، بعيدا عن رنة العُملات أو نعومتها..
لا تخشوا على هويتنا يا سادة.. و«فضوها سيرة»..