كليف كروك
TT

ما هو مستقبل التمويل؟

لا تعاني المكتبات من نقص في الكتب التي تتناول الأزمة المالية وتوابعها. وباتت الآن معايير تناول مؤلفات جديدة لهذه القضية مرتفعة. لذا أود أن أوصي بعنوانين جديدين يلبيان تلك المعايير العالية.
لكن في مقالي هذا أريد التركيز على مؤلف ممتاز صدر حديثًا وهو كتاب «أموال الآخرين» للكاتب جون كاي.
وسأؤجل الحديث عن كتاب «بين الدين والشيطان» لمؤلفه آدير تيرنر.
يتفق كاي وتيرنر حول كثير من الأمور، لكن الأول يتخذ نهجًا غير مألوف في تناولها. ولا يقدم هذا المؤلف دليلاً مفصلاً للأحوال المالية قبل اندلاع الأزمة، ولا يعرض سردًا مرتبًا للمشكلات المترتبة على ذلك. (يصعب على أي مؤلف آخر أن يتغلب على كتاب «بعد توقف الموسيقى» للكاتب آلان بليندر في هذا السرد). وعوضًا عن ذلك، يعود بنا كاي إلى الجذور الأصلية، متسائلاً عن الأغراض التي قام من أجلها النظام المالي، ليرصد مدى ابتعاد الاقتصاد المالي الحديث عن ذلك النموذج المثالي.
ويجادل كاي بأن الهدف من التمويل هو الربط بين المدخرين والمقترضين - المستهلكين النهائيين، وليس بين الوسطاء الماليين. إن الاختبار العملي الذي يحدد نجاح أي نظام مالي يكمن في قدرته على الربط بين أسرة تمتلك أموالا فائضة عن حاجتها، على سبيل المثال، وبين شركة أو حكومة تحتاج للاقتراض من أجل الاستثمار، بتكلفة منخفضة وعلى نحو يعود بالنفع على الطرفين. لذا الفهم الصحيح لمهمة النظام المالي يقتضي أن تخدم كل المؤسسات الوسيطة بين هذين المستخدمين النهائيين ذلك الغرض الأساسي.
لقد فقدت الاقتصادات الحديثة، من وجهة نظر كاي، إدراكها لهذا الغرض الحيوي. وأصبح ينظر إلى التمويل على أنه غاية في حدّ ذاته، كما لو أن الاقتصاد العالمي قائم لخدمة «وول ستريت» و«الحي المالي» في لندن وليس العكس. ولو طبقت هذه الذهنية على توليد الكهرباء، على سبيل المثال، ستتجلى سخافة هذا الوضع بوضوح: إنك لا تولد الكهرباء لذاتها.
إلا أن الاقتصاد الحديث أصبح يرى في التمويل وكل تعقيداته الشديدة على ذلك النحو - وسطاء يتعاملون مع وسطاء يتعاملون مع وسطاء، دون التفكير مطلقًا في المستخدم النهائي. هل يمكن أن يحدث شيء ما ذو قيمة اجتماعية عندما يبرم البنك الاستثماري «أ» صفقة رابحة مع مؤسسة إدارة الأصول «ب»؟ ليس بالضرورة. إلا إذا وجد الربح سبيله على نحو ما إلى مستخدمين نهائيين. وإذا لم يحدث ذلك، تتحول تكاليف الوساطة إلى ضريبة يتحملها فعليًا كل الأطراف الأخرى.
وتطرح تلك الرؤية الكثير من التساؤلات المثيرة للاهتمام، والتي يتحسس كاي سبيله فيها بكل حذر. أولا، في أي اقتصاد حديث، كم ينبغي أن يكون حجم القطاع المالي؟ ويجادل بأنه ليس بهذا الحجم ولو من قريب. كيف وصل إلى هذا الحجم الكبير، إذا كان عاجزًا عن تبرير تكلفة موارده؟ بالأساس، عبر جمع أوجه الدعم الصريح والضمني - وأبرزها، الدعم الذي ينطوي عليه وعد الحكومة بمساندة مؤسسة خاسرة.
وما يكسب تحليل كاي المصداقية، هو أنه ليس من نمط الشخصيات المفتعلة المعادية للأسواق. إنه أكاديمي متميز ورجل أعمال ناجح، وشغل منصب رئيس مجلس إدارة لجنة حكومية بريطانية لمراجعة أسواق الأسهم بعد الانهيار المالي. إن رؤيته في المجمل مؤيدة في الواقع للأسواق المالية. ويعارض الدعوات التي تدفع باتجاه تشديد وتعقيد الإجراءات التنظيمية على تلك الأسواق، إذ يعارض فرض «ضريبة توبين» على المعاملات المالية بسبب عواقبها المرجحة غير المقصودة، ويعتقد أن الهوس بفكرة «أكبر من أن ينهار» يفوته الهدف المنشود. (ويجادل بأن المشكلة ليست في الحجم، ولكن في التعقيد).
ويجادل كاي بأن السبيل الصحيح للمضي قدمًا، هو وقف تدفق الدعم. افعل ذلك، وستبدأ قوى السوق في دفع التمويل في الاتجاه الصحيح. ويبدو ذلك مباشرًا وسطحيًا، لكنه يحمل في طياته تداعيات جذرية. الأمر لا يتعلق فحسب، على سبيل المثال، بمطالبة البنوك باحتجاز المزيد من رؤوس أموالها - رغم أن ذلك يمثل نقطة انطلاق جيدة. بل تكمن المشكلة، من وجهة نظر كاي، في أن حجم رأس المال المطلوب للحفاظ على سلامة البنوك، ومن ثم حرمانها من الدعم الضمني الذي تكفله لها الحماية الحكومية، يتجاوز طاقة الأسواق.
وإذن ما الذي ينبغي فعله؟ يعتقد كاي بأن المصارف التي تتلقى الودائع، ينبغي أن تتقيد بشراء الأصول الآمنة جدًا - تتقيد، بمعنى أن تنتهج صيرفة «ضيقة» أو «محدودة الغرض». ويتجاوز هذا المقترح الوصفات التقليدية الأخرى من قبيل إعادة العمل بقانون غلاس - ستيغال للفصل بين الصيرفة التجارية والاستثمارية. وتعني الصيرفة الضيقة أن تسليف الشركات والمقترضين الخطيرين الآخرين ينبغي أن تتولاه مؤسسات تنقل المخاطرة صراحة إلى المدخرين الذين يستثمرون أموالهم معها. وبشكل عام، يفضل كاي نظامًا ماليًا يضم الكثير من تلك المؤسسات المتخصصة، بحيث ترتبط كل واحدة على نحو مباشر بفئة أو أخرى من المستخدمين النهائيين.
ويعترف كاي بأنه يطلب على نحو أو آخر إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. على سبيل المثال، يتطلب الإقراض الحصيف للشركات الصغيرة معرفة محلية عميقة أكثر من لوغاريتمات ورياضيات معقدة. ويعتقد أنه ينبغي استعادة تلك النوعية من الخبرة التخصصية العتيقة. ويتعين أن يتحلى التمويل الحديث بنظرة أكثر انفتاحًا وأقل هوسًا بالذات. فإذا كان ذلك يعني إعادة الزمن إلى الوراء. فليكن.
إن إصرار كاي على التراجع خطوة إلى الوراء والحكم على التمويل بحسب المعايير التقليدية التي تحكم أي صناعة أخرى، مع تجريده من الغموض وهالة الحتمية التي يحيط نفسه بها لخدمة مصالحه، تجعل «أموال الآخرين» أحد أفضل كتابين أو ثلاثة قرأتها عن الأزمة المالية.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»