د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

قيادات مخادعة معاصرة تفوقت على ميكافيلي

استمع إلى المقالة

كان من أهم إرهاصات عصر النهضة الأوروبية في منتصف القرن السادس عشر ظهور كتاب «الأمير» لمفكر الواقعية والبراغماتية السياسية نيقولا ميكافيلي. في هذا الكتاب، الذي يعدُّ إنجيل العمل السياسي للدبلوماسيين والفاعلين السياسيين، فَصل ميكافيلي السياسة عن أي مرجعية أخلاقية ومنظومة قيم دينية، رافعاً شعار الغاية تبرر الوسيلة، والتي بمقتضاها تكون المصلحة والقوة مدار الحكم بالصواب والخطأ على أي فعل سياسي، وعلى أن يكون للسياسة مرجعيتها وأدواتها ومناهجها الخاصة بعيداً عن أي معايير دينية أو أخلاقية عليا. ودلَّل ميكافيلي على هذه الأطروحة بأن الأنبياء المسلحين انتصروا عبر التاريخ، في حين فشل نظراؤهم من الأنبياء غير المسلحين. بل ذهب أبعد من ذلك في هذا التحليل السياسي حين أشار إلى أن الأمير قد يصل إلى السلطة عبر مجموعة من الطرق أهمها: الحظ، والكفاءة، والنذالة، والثورة، ودعم النبلاء.

بيدَ أن واقع التفاعلات السياسية والاجتماعية الراهنة يشير إلى أن ميكافيلي قد فاته أمران رئيسيان: أولهما إمكانية الانتصار الوهمي للقائد الضعيف، وثانيهما أن السذاجة يمكن إضافتها إلى طرق الوصول إلى السلطة السالفة الذكر. وإن كان ميكافيلي قد تطرق إلى دور النبلاء في إدارة المشهد السياسي من وراء الكواليس، إلا أنه لم يُشر إلى سمات الوكلاء المنوطة بهم مهام الدور الوظيفي نيابةً عن هذه النخبة. وثمة سوابق تاريخية كثيرة تَدلُّ على أن صانع القرار الذكي أو القوي في بعض منظومات العمل السياسي والإداري يميل إلى اختيار شخصيات تجمع بين سمات الضعف الشديد والسذاجة المفرطة بحيث تكون تلك الشخصيات الوظيفية ضعيفة إلى الدرجة التي لا تفوق قوة صانع القرار الذي يستغلها، وساذجة إلى الحد الذي من الممكن أن تساعدها حماقتها على إقناع صانع القرار القوي باستغلالها عبر تصديرها للمشهد السياسي والإداري. وغالباً ما ينظر صانع القرار إلى هذه الشخصيات الضعيفة والساذجة التي يُصدِرها للمراكز القيادية بوصفها شخصيات نفعية وأدوات استعمالية ووظيفية، فيُوكلُ لها لعب دور كبش الفداء الذي يحمل ذنوب وأخطاء سيده ويؤدي غرضاً محدداً، ينتهي بمجرد اكتماله وإنجازه. وعادةً ما يميل صناع القرار لتلك الشخصيات الزبائنية لأنها تتسم بمجموعة من الأنماط الفكرية والسلوكية التي تلبي حاجات ومتطلبات من يصنعون القرار، والتي من أهمها على الإطلاق التبعية اللاواعية لمن يمتلكون القوة والسيطرة. وتعقبها سمات أخرى: كالشغف العميق بالسلطة، والإفلاس الفكري، والعقلية الاستحواذية الصفرية التي تبحث عن تعظيم المكاسب الذاتية على حساب خسارة الآخرين، والغيرة من النجاح، والتجرد من النزعة الإنسانية وقيم الرحمة والشفقة في تعاملاتها المهنية والاجتماعية، والنرجسية المتضخمة التي تقودها بشكل لاشعوري إلى العمل ليس فقط ضد المصلحة العامة، بل ضد مصالحها الخاصة. وبسبب جملة هذه السمات فإن بعض القيادات القوية والمخادعة تميل إلى البحث عن تلك الشخصيات حتى تدفعها إلى واجهة الوظائف القيادية حتى تمرر من خلالهم أجندتهم الخفية وأفكارهم ومشاريعهم الخاصة، وتحميلهم مسؤولية الأخطاء والفشل، وإن لم يجدوا هذه الشخصيات، فإنهم يسعون حثيثاً إلى تصنيعها وخلقها.

وثمة صور كثيرة في الواقع السياسي تَدلُّ على طبيعة هذه العلاقة الوظيفية التي تُجنِّدُ فيها الأيادي الخفية للنخبة السياسية شخصيات ضعيفة وساذجة لتمرير وتنفيذ خططها ومشاريعها السرية مستغلةً ما تتسم به هذه الأخيرة من سمات التبعية المطلقة والإفلاس الفكري والعقلية الصفرية ونوازع النرجسية... وبقية السمات الأخرى، التي تدفعها بشكل غير واعٍ إلى العمل ضد مصالحها الخاصة وضد المصلحة العامة. ففي بعض الحالات قد تأخذ النخبة السياسية الخفية صورة جماعة دينية والتي ترى أن من مصلحتها أن تُصدِّر إلى المشهد العام قائداً ضعيفاً حتى يتسنى لها تمرير أجندتها السياسية السرية، وهذا القائد بشكل غير واعٍ ينفّذ مشاريع الجماعة ضد مصالحه الذاتية وضد مصالح شعبه في آنٍ واحد (مرسي وجماعة الإخوان نموذجاً). والحال كذلك مع أطياف متنوعة من المعارضة العربية الضعيفة التي تعيش في الخارج والتي تستعملها أطراف أكبر منها من حيث القوة المالية والسياسية وتستغل سذاجة أحلامها بالوصول إلى السلطة والنفوذ الاجتماعي. وفي حالاتٍ أخرى وعلى صعيد العلاقات الدولية، بالإمكان أيضاً أن تُوظِف بعض الدول المركزية الكبرى فاعلين سياسيين من ذوي الشخصيات الضعيفة التي ترتبط معها بمصالح حيوية واستراتيجية، كصناعة الإدارة الأميركية لبعض قيادات أميركا اللاتينية في أثناء الحرب الباردة، أو تكوين نخب المعارضة العراقية المناهضة لصدام قبل الاحتلال الأميركي للعراق، أو تشكيل معارضة عربية تقودها شخصيات انتهازية وضعيفة لتدير مستقبل المشهد السياسي لمرحلة ما بعد التحولات الاستراتيجية بالمنطقة. وسيناريوهات نموذج الإدارة الأميركية يمكن تطبيقها أيضاً على خيارات وتفضيلات القادة الإيرانيين للشخصيات الاستعمالية لوكلائها بالخارج. وبالتالي من الممكن الاستدلال من هذه التجارب السياسية على أن أطروحة ميكافيلي ليست مطّردة على الدوام. فالشخصيات القوية التي تتمتع باستقلالية الإرادة الذاتية، والعمق المعرفي، وتميل إلى تغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة علاوة على حصافتها وذكائها السياسي ليست دائماً حظوظها وافرة وكبيرة في الوصول إلى الوظائف القيادية في الدول الهشة التي تقع تحت هيمنة الدول الكبرى.

ملمحٌ مهم آخر قد فات ميكافيلي أيضاً، وهو أن العلاقة الزبائنية أو الاستعمالية بين المركز والأطراف التي تميل إلى تفضيل الشخصيات الضعيفة التي تكون سذاجتها قرينة عينية موصِّلة إلى تصدر المشهد العام ليست حكراً في ميدان العلاقات الدولية. بل هي ممارسة مهنية متعارف عليها في مؤسسات النفع العام والقطاع الخاص. فبعض النخب أو القيادات الإدارية غالباً ما تميل في تفضيلاتها إلى اختيار شخصيات ضعيفة وساذجة لتمرير خططها الخفية ومشاريعها السرِّية إذا اعتقدت أن أفكارها ومشاريعها الخاصة ممكن أن تكشف عن نياتها المضمَرة، أو تجعلها عُرضة للمحاسبة والمسؤولية، أو من الممكن أن تؤدي إلى زعزعة شرعيتها، أو دخولها في صراع مفتوح مع أطراف مناوئة لها. ولضمان أن تبقى إدارة الصراع وخيوط اللعبة في الأيادي الخفية لهذه النخبة الإدارية فإنها دائماً ما تسعى إلى أن تتأكد من قابلية وكلائها أن يكونوا أدوات وظيفية ومواد استعمالية لتحقيق أهدافها السرِّية ومشاريعها غير المعلنة. ويكون هذا التثبت من خلال دراسة واستقراء دقيق لاكتمال التوازن الذي يجمع بين الضعف الشديد والسذاجة المفرطة. فالقيادات الإدارية التي تتطلع إلى تمرير مشروعها الخاص بعيداً عن الأضواء ومن وراء الكواليس المظلمة والأبواب المغلقة غالباً ما تحرص كل الحرص على ألا تمتلك الشخصيات المُوكلُ إليها أداء المهمات القذرة، القوة بما يفوق بأس مُوكِّلها أو سيدها، وأن تكون على درجة مفرطة من السذاجة التي تجعلها تتوهم أن وصولها إلى القيادة نابع من مقومات حقيقية ترتبط بالحظ أو الكفاءة أو الذكاء (النذالة بفهم ميكافيلي)، وليس نتاج حماقة ذاتية أو ترتيبات وظيفية تُفضي إلى التضحية بنفسها وبفريق عملها الجماعي أو بالمؤسسة كلها. وأمثلة نماذج القيادات الإدارية المخادعة التي تستغل ضعف عملائها وتوظف رغباتهم الحمقاء في الوصول إلى المراكز المتوسطة والعليا والتي فاتت على مفكرنا ميكافيلي، غير محدودة، في حين أن عدد كلمات المقال محدود.