محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

سلوكياتنا المحيّرة

استمع إلى المقالة

لاحظ علماء الإدارة أنهم صاروا بحاجة ماسّة إلى الاستعانة بعلم يفهم سلوكيات البشر، وذلك لتفسير ما يقوم به الموظفون والمديرون والقياديون. فاستعانوا بعلماء النفس للإجابة عن تساؤلات وملاحظات تحيّرهم. وربما بادر بعض علماء النفس طواعية لاختراق بيئات العمل بأبحاثهم ليروا كيف يتصرف الإنسان حينما يتولى منصباً، أو يجد نفسه مضطراً لمسايرة مدير «شرير» أو قيادي «فاسد» أو آخر لا يفقه شيئاً في أبجديات القيادة.

كل تلك التساؤلات وغيرها، تمخضت عن دراسات تراكمت لتكوّن علماً أُطلق عليه فيما بعد «علم النفس الإداري Managerial Psychology» وهو فرع من فروع علم النفس الصناعي التنظيمي على وجه التحديد.

وتعود بواكير هذا الميدان إلى مطلع القرن العشرين، حيث احتار العالم الإداري الشهير ألتون مايو في معرفة ما إذا كان للعوامل المادية؛ مثل ساعات العمل، أو الراحة، أو الإرهاق، أو تغيير مستوى الإضاءة، دور فعال في رفع إنتاجية العاملين من عدمه. فعزم مع ثلّة من الباحثين معه في جامعة «هارفارد» على التحقق من هذه المسألة، بإجراء تجارب على أحد المصانع، ليتوصلوا إلى نظرية إدارية مهمة، أسهمت فيما بعد في إضافة مدخل جديد في علم الإدارة يهتم بالجانب الإنساني والاجتماعي في التعامل مع الموظفين.

التجربة بدأت برفع مستوى الإضاءة في مصنع «هاوثورن» التابع لشركة «ويسترن إلكتريك»، لقياس تأثير ذلك على مستوى الإنتاجية. فتبين أن الإنتاجية ارتفعت بشكل ملحوظ. وعندما خُفض مستوى الإضاءة كانت النتيجة مدهشة للباحثين، إذ وجدوا أن الإنتاجية قد ارتفعت أكثر من الحالة السابقة. وبعد دراسات وملاحظات ومقابلات علمية استدلوا على أنه ليس للعامل المادي (الإضاءة) تأثير مباشر في الإنتاجية، إذ كانت الإنتاجية ترتفع في الحالتين، طوال فترة الدراسة والتجارب.

وعندما سأل الباحثون العاملين عن السبب، صارحوهم بأنهم بدأوا يشعرون بارتياح نفسي كبير وهم يرون جدية إدارة المصنع والباحثين في الاهتمام بهم، خصوصاً عندما عرفوا أن أهداف الدراسة نبيلة وتصب في مصلحتهم. وفيما بعد أُطلق مصطلح «تأثير هاوثورن Hawthorne Effect» على هذه التجربة، بمعنى تأثير تلك التجربة في سلوكيات الناس.

وأُجريت تجارب مشابهة عبر استخدام عوامل مادية أخرى مثل تأثير ساعات العمل، والراحة، والإرهاق، وطرق العمل، لمعرفة دورها في زيادة الإنتاجية، لكنّ التجارب لم تصل إلى تأكيد يُثبت تأثيراً مباشراً وأساسياً لهذه العوامل في الإنتاجية، بل وصلت إلى النتائج ذاتها (في دراسة الإضاءة)، وهي أن إحساس العاملين باهتمام الإدارة هو ما أثّر في الإنتاجية وليست العوامل المادية.

بعد هذه التجربة توسعت آفاق المنهج السلوكي في الإدارة، وتزايدت الأبحاث لفهم السلوك البشري المحيّر. فتجد شخصاً يستقبلك بابتسامة صفراء، وربما يتظاهر بمد يد العون، ثم سرعان ما تكتشف أنه يكيد لك المكائد ليتسلق على أكتافك نحو مبتغاه!