انتهت منذ أيام قمة باريس التي عُقدت بمشاركة نحو 50 من قادة الدول، ومشاركين من المنظمات والمؤسسات الدولية ومسؤولي القطاع الخاص والمجتمع المدني، من أجل ميثاق مالي عالمي جديد. وطرحت فكرة هذه القمة في شرم الشيخ أثناء انعقاد قمة المناخ السابعة والعشرين التي رأستها مصر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في الجلسة التي شاركت فيها رئيسة وزراء بربادوس ميل موتلي، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وبعد 6 شهور من الإعداد والأخذ والجذب حول الترتيبات والأولويات لقمة باريس، سلطت أنظار المتابعين على الجلسة الختامية التي أدارها الرئيس ماكرون، مؤكداً فيها أكثر من مرة أنه يعرض نقاط توافق ككاتب للجلسة، مستدعياً إلى الأذهان الصورة الشهيرة للكاتب المصري الجالس القرفصاء. وهي صورة ليست بعيدة عن دلالة لتاريخ تطور العمل الدولي المشترك، ومدى نجاح -أو إخفاق- دبلوماسية القمم في تحقيقها لما تهدف إليه.
وهناك مبالغة في وصف مجموعة الترتيبات المختلفة المعمول بها، والتي تشكل المعاملات المالية الدولية، بأن نعتبرها نظاماً أصلاً. وهي الملاحظة ذاتها التي ساقها أندرو كروكيت في عام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية -أثناء شغله لمنصب المدير العام لبنك التسويات الدولية- مطالباً بإصلاحات، ولكنه توقع أن النموذج المتبع سيستمر مع زيادة نسبية في دور القواعد الرقابية، وهو ما حدث بالفعل، رغم مطالبات لم تكن الأولى من نوعها، لإحداث تغيير جذري سعياً لنظام مالي مكتمل الأركان.
ولكن، هل يمكننا افتراض الاستفادة من دروس الأزمات السابقة، وأنه ستترتب على هذه القمة تغيرات ملموسة في «نظام» التمويل الدولي الراهن؛ ناهيك من إجابة العنوان ذي الدلالة الذي طرحه موقع «بروجكت سينديكيت»: «هل ثمة ثورة تمويل في باريس؟» وإجابتي: لا! وأرجو مخلصاً أن تثبت الأيام القادمة خطأ هذا التقدير. فالثورة بما تعنيه من انتقال النظام المالي العالمي الراهن إلى نظام جديد أكثر كفاءة وعدلاً، أو على الأقل تحقيق نقلة نوعية في إطار النظام المالي العالمي الراهن، تتطلب مزيداً من الطموح والإجراءات العملية لتحقيقها، مساندة بمناخ سياسي مواتٍ.
بعض الرسائل الإيجابية من باريس
كانت أولويات التمويل تعاني من غموض غير مبرر، بسبب ما تم إقحامه عمداً من جدل بأن العمل المناخي يتعارض مع تحقيق التنمية المستدامة، والعكس. وقد أكدت قمة شرم الشيخ أن العمل المناخي ينبغي إدراجه وفقاً لنهج شامل لتحقيق الاستدامة. وقد ذكرت في إطارها أن «لا خير في عمل مناخي يزيد الفقر ويسبب البطالة ويعوّق النمو». ويبدو أن هذا النهج الذي تبنته بداية البلدان النامية وجد صدى قد انعكس في المقال الذي صدر بتوقيع الرئيس الفرنسي ومعه 12 من قادة دول العالم المشاركين، ممثلين لاقتصادات نامية ومتقدمة، أكدوا في مقالهم المعنون «انتقال أخضر لا يستثني أحداً»، تشابك الأزمات والصدمات التي سببت زيادة الفقر والديون وتفاوت الدخول وتدهور المناخ... واتفقوا على العمل معاً للتصدي لها.
ومن الإيجابيات التي جرت على هامش الاجتماعات، ما تم إعلانه من تمويل للسنغال بمبلغ 2.5 مليار يورو، من خلال مبادرة الانتقال العادل للطاقة التابعة لمجموعة الدول السبع، على مدار 3 إلى 5 سنوات. وإن كان المطلوب أيضاً لعموم أفريقيا الاستثمار في صناعات تتطلب تخفيض الكربون فيها، مثل الصلب والأسمدة والإسمنت وغيرها، وهو مطلب لم تتحرك مجموعة الدول السبع قدماً في تنفيذه أو حتى دراسته بموضوعية، رغم نتائجه الواعدة.
وقد تم الإعلان أيضاً عن نجاح زامبيا في التوصل لاتفاق لمعالجة ديونها الخارجية، وفقاً لآلية مجموعة العشرين، بعد جهد مضنٍ استمر لسنوات، تقوم بمقتضاه بإعادة هيكلة نصف مديونيتها البالغة 13 مليار دولار.
وكانت هناك فاعليات تعكس تطوراً لدور المشاركات مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، في العمل المناخي والتنمية، شملت أسواق الكربون، والهيدروجين الأخضر، ومبادلة الديون باستثمارات في مجالات التخفيف والتكيف والطبيعة، فضلاً عن استعراض أدوات جديدة للتمويل والائتمان الميسر، ومخاطر الاستثمار، وزيادة عوائده، قدمتها المؤسسات المالية الدولية.
مطالب تستدعي العزم في متابعتها
ظهر جلياً التنسيق بين قادة البلدان النامية، وخصوصاً الأفريقية، في مطالبهم المحددة فيما يتعلق بتخفيض الديون وزيادة التمويل والتعاون التكنولوجي وزيادة فرص التجارة، مع أهمية التزام الدول المتقدمة بتعهداتها، خصوصاً بالنسبة لتمويل التنمية والعمل المناخي، مع توضيح تفصيلي لما تحقق من التزام فعلي بالتعهدات. وقد انعكس ذلك بالتأكيد في تلخيص الجلسة الأخيرة على إصدار تقرير أداء نصف سنوي.
رغم شمول قمة باريس خطوات في الاتجاه الصحيح؛ لكن تحديات وفرص عالم اليوم تتطلب ثباتاً لتجاوز عقبات التنمية المستدامة؛ فقد تجاوزنا منتصف الطريق زمناً لتحقيقها، فإذا بالعالم ينجز فقط أقل من 15 في المائة من الأهداف، بينما أكثر من 50 في المائة من الأهداف بعيد عن المسار المطلوب، و30 في المائة منها أسوأ مما كان عليه الوضع في عام 2015، عندما دشنت هذه الأهداف ومعها اتفاق باريس للمناخ الذي يعاني من بطء التنفيذ رغم كثرة التعهدات.
هذه الأهداف تستلزم علاجاً فورياً لأزمة الديون التي تعاني من حدتها البلدان النامية، بما فيها من يلتهم خدمة الديون ومخصصات التعليم والصحة، فضلاً عن التصدي لتداعيات تغيرات المناخ على عموم الناس وحياتهم وأسباب معيشتهم.
ولن يتصدى لهذه التحديات عالم تعاني مؤسساته المالية الدولية من انخفاض لرؤوس أموالها، تعجز معه عن تلبية احتياجات تمويل المناخ والتنمية، ما يجعل كثيراً من الافتراضات المطروحة في باريس عن قدرة هذه المؤسسات للقطاع الخاص، وتخفيض المخاطر، واستخدام أساليب الابتكار المالي، إلى غير ذلك، ضرباً من الخيال. ففي عالم المال؛ الصغيرُ ليس جميلاً دائماً، وفجوات التمويل التريليونية لن تجسرها وعود بمليارات محدودة، وهي إنْ أتت تأتي متناثرة وعادة متأخرة.