د. ثامر محمود العاني
أكاديمي وباحث عراقي شغل العديد من المناصب الإدارية والأكاديمية، بينها إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية. كما عمل محاضرا في مناهج الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد ومعهد البحوث والدراسات العربية. يحلل في كتاباته مستجدات الاقتصاد السياسي الدولي.
TT

الاقتصاد العراقي إلى أين؟

استمع إلى المقالة

يواجه الاقتصاد العراقي مشكلة «لعنة الموارد»، إذ إن العراق - وهو الدولة ذات الوفرة الكبرى - يعيش فيه أفقر الناس، حيث تنخفض مساهمة قطاعات الصناعات التحويلية والزراعية في توليد الناتج المحلي الإجمالي استناداً إلى التقرير الاقتصادي العربي الموحد 2022، إذ تساهم الزراعة والصيد والغابات بنسبة 5% في توليد الناتج المحلي الإجمالي للعراق، والصناعات التحويلية بمقدار 1.9%، في حين تساهم الصناعات الاستخراجية بنسبة 44.2%، والتشييد بـ 2.3%، والكهرباء والغاز والماء بـ 2.7%، والتجارة بـ 9%، والنقل بـ 9.8%، والتمويل بـ 0.7%، والإسكان بـ 5.5%، والخدمات الحكومية بـ 4.3%، وأخيرا الخدمات الأخرى بـ 3.3%. وهذا يمثل خللاً هيكلياً في الاقتصاد العراقي؛ إذ إن مساهمات القطاعات السلعية منخفضة جداً في توليد الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يؤدي إلى تعميق مشكلة الاقتصاد العراقي، الذي لا يرى نمواً حقيقياً في القطاعات الإنتاجية، إنما يرى نمواً في عائدات الحكومة النفطية نتيجة تحسن أسعار النفط خلال عامي 2021 و2022.

وأثَّرت التَّقلُّباتُ التي شهدتها سوق أسعار صرف العملات الأجنبية، وخفضُ حجم الإنتاج النفطي، على زخم النمو في العراق، كما يُمكن أن تؤدي خطط السلطات العراقية التوسعية في المالية العامة إلى تَفاقم مستوى التَّضخُّم على المدى القصير (سنة)، وإلى فرض مخاطر كبيرة على استقرار الاقتصاد الكلي في المدى المتوسط (3 سنوات)، إذ يعد انضباطُ المالية العامة والإصلاحاتُ الهيكلية واسعة المدى عاملين بالغي الأهمية للحدّ من مواطن الضعف في الاقتصاد العراقي.

وقام فريق من خبراء صندوق النقد الدولي بزيارة إلى الأردن خلال المدة من 24 إلى 31 من مايو (أيار) الماضي بهدف مناقشة أحدث المستجدات والآفاق الاقتصادية مع الحكومة العراقية، إلى جانب مناقشة الخطط المتعلقة بالسياسات المستقبلية. وأشار الفريق إلى تباطؤ زخَم نمو الاقتصاد العراقي في الأشهر الأخيرة، فبعد تعافي الإنتاج النفطي في العام 2022 واستعادة مستواه الذي وصل إليه قبل تفشّي جائحة كورونا، من المتوقع أن ينكَمش الإنتاج بنسبة 5 في المائة في العام 2023 في ضوء قرار تحالف أوبك بلس بخفض حجم الإنتاج النفطي، وانقطاع خط أنابيب كركوك - جيهان النفطي عن العمل.

وحسب ما هو مقترح في مسودة قانون الموازنة للعام 2023، سيزيد التوسع المالي بشكل أكبر، ومن شأن التّأثيرات المشتركة لزيادة الإنفاق الحكومي ولزيادة سعر صرف الدينار العراقي ولخفض الإنتاج النَّفطي، مجتمعةً، زيادة سعر برميل النفط المطلوب لتحقيق التوازن (عجز صفري) في المالية العامة، إلى 96 دولارا.

وعلى المدى القصير، فإن تنفيذ الحكومة العراقية للخطط التي وضعتها للمالية العامة من الممكن أن يدفع نسبة التَّضخُّم إلى التصاعد، ويعيد سوق صرف العملات الأجنبية إلى التقلب. أما على المدى المتوسط، فإن استمرارَ العمل بالسياسات الحالية في ظل قدر كبير من عدم اليقين بشأن مسار أسعار النفط مستقبلاً، يفرض مخاطرَ بالغة على استقرار الاقتصاد الكلي.

وسيكون لخلق بيئة مُمَكِّنة من تنمية القطاع الخاص أهمية قُصوى، لتحقيق نمو مستدام وأكثر شمولاً للجميع. وتتضمن الأولويات في هذا المجال استمرارَ جهود تعزيز الحوكمة والحدّ من الفساد، وإعادة هيكلة المصارف الكبيرة المملوكة للدولة لتحسين الوصول إلى التمويل، وإصلاح سوق العمل بهدف تعزيز خلق فرص العمل في القطاع الخاص، وتحسين قدرة قطاع الكهرباء على استرداد التكاليف لتعزيز قدرته على تلبية الطلب بطريقة مستدامة، وتحسين بيئة العمل الأوسع نطاقاً.

واستنادا إلى تقرير «آفاق الاقتصاد العربي»، صندوق النقد العربي مايو 2023، يتوقع أن يستمر زخم النمو المحقق سنتي 2021 و2022، ليحقق معدل نمو بنحو 4.0 بالمائة في عام 2023، وذلك رغم التحديات المتعلقة بالقطاع الزراعي والأمن الغذائي بسبب ظروف التغير المناخي، كما تبقى هذه التوقعات يكتنفها الكثير من عدم اليقين بسبب الاعتماد على النفط، وهو ما يعني الحاجة إلى تنفيذ المزيد من الإصلاحات الهيكلية والمالية الكلية لتعزيز مساهمة القطاع الخاص في التنمية، وتعزيز القطاعات غير النفطية.

إن المسألة الجديرة بالاهتمام تكمن في معالجة الفساد وإصلاح الاقتصاد العراقي ومعالجة التحديات، مع وضع أُسس متينة للنهوض بمختلف قطاعات الاقتصاد العراقي وإيجاد الأرضية الصلبة لإطلاق خطط تنموية طموحة تتجاوز أخطاء الحكومات السابقة التي ركزت على الاعتماد شبه الكلي على النفط كمصدر أساسي لإيرادات الدولة.

وينبغي أن تسعى الحكومة إلى دعم كل جهد حكومي للنهوض بالاقتصاد العراقي وتأمين مستقبل الأجيال القادمة، والأهم من ذلك تحييد القطاعات المتصلة بالنمو الاقتصادي والثروة الوطنية عن ساحة صراعات وسجالات المشهد السياسي، وبذلك يمكن أن تواصل الحكومة خطواتها الجدّية لمكافحة الفساد المالي والإداري وتهيئة المناخات المناسبة للاستثمار في مختلف القطاعات، وبما يكفل تعاظم الثروة وطمأنة المواطن وجعله يتطلع للمستقبل بثقة فضلا عن المشاركة في صناعة المستقبل الواعد للاقتصاد العراقي.