يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

«الاستثمارات العامة» السعودي... والجلد الخشن!

استمع إلى المقالة

أخفقت استراتيجيات استهداف السعودية المبنية على تصورات وأجندات مغلوطة، خصوصاً مع صعود الصورة الجديدة لمملكة «رؤية 2030»، ونجاحاتها المتتالية التي باتت ملء السمع والبصر، وباستدامة وثبات وتجديد وتطوير مستمر ومباشر من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي يجسد لدى شباب الشرق الأوسط وليس الخليج أو السعودية صورة وكاريزما القيادة الجديدة نحو المستقبل.

اليوم تتم محاولة استهداف نجاحات المملكة عبر نقد ملفات بعينها، وقد كتبت عدة مرات عن إخفاق ملف النفط والنجاح الكبير لدبلوماسية الطاقة التي يديرها بجدارة وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، لكن من الجدير بالكتابة عنه ونفي الأوهام هو محاولة تسييس توجهات وقرارات صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) الذي يلعب دوراً كبيراً اليوم في تعظيم الأثر للصعود السعودي وتسويق الرؤية ونقلها إلى مصاف عالمية، لكن أيضاً في تحقيق مستهدفاتها من خلال تنويع سلة الاستثمارات والدخول إلى أسواق جديدة، ومنها سوقا الترفيه والرياضة.

صندوق الاستثمارات العامة على المرتبة السادسة بين أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم بعد ارتفاع أصوله لتصل إلى 650 مليار دولار، وفقا لآخر تصنيف لمؤسسة (SWF Institute) المتخصصة في دراسة استثمارات الحكومات والصناديق السيادية، وارتفعت أصول الصندوق بقيمة 42.6 مليار دولار، مقارنة بـ 607.42 مليار دولار في نهاية 2022 وعلى مستوى التوظيف من 50 موظفاً في بداياته إلى ما يزيد على 2000 موظف.

ووفقاً لاستراتيجية الصندوق للأعوام الخمسة المقبلة فإن المستهدف مضاعفة حجم أصوله ليتجاوز 4 تريليونات ريال ما يعادل 1.07 تريليون دولار في 2025، كما ذكر ولي العهد أن المستهدف رفع أصول الصندوق إلى 10 تريليونات ريال في 2030، بما يعادل 2.7 تريليون دولار.

اليوم شهرة الصندوق باتت كبيرة، ويكفي أن ترصد عشرات الدراسات والمقالات والأبحاث والتعليقات عنه في مراكز الأبحاث والمنصات الإعلامية بعد أن بات اسمه يتردد وراء صفقات كبيرة من النجاح الكبير في مشروع الدمج في لعبة الغولف، والسيطرة على نادي نيوكاسل يونايتد، وعن جلب أكبر لاعبي كرة القدم في العالم إلى السعودية، إلى غير ذلك مما لا يركز عليه الإعلام الغربي، الذي يكتفي بالرمزيات ويغفل عن السياق العام للصندوق ودوره الكبير في الاستثمار في الداخل والمواطن السعودي والمدن والهويات الجديدة للأقاليم ودمجها في الأطر الثقافية والسياحية والبنى التحتية، وحتى المشاريع العقارية بمواصفات أسهمت في رفع مستوى المنافسة وذائقة العملاء والمقاولين.

يمتاز الصندوق السيادي السعودي عن الصناديق العامة الأخرى في أنه تجاوز «الصورة النمطية»، وكسر «القالب»، ومارس دور «المأسسة» للتفاصيل الصغيرة، فهو خرج عن المألوف في استثمارات الصناديق المماثلة، والتي لا تعدو أن تكون سوى صناديق معاشات تقاعدية لمواطني الدولة أو لموظفي القطاع العام.

صندوق الاستثمارات العامة تفوق على الشركات الاستثمارية في القطاع الخاص، ورفع من مستواها من التوظيف إلى استهداف الأسواق إلى تنويع الاستثمارات، كما أن ملكيته للدولة مكنته من الدخول بقوة في الأسواق العالمية واقتناص الفرص، وهنا قرأه الكثير في الخارج بسطحية باعتباره مضخة أموال لتحسين الصورة، خصوصاً مع دخوله في قطاعات ذات أصداء إعلامية مثل الترفيه والرياضة، رغم أنها قطاعات واعدة اقتصادياً والاستثمار فيها من صميم مستهدفات «رؤية 2030»، التي من أهمها بناء مجتمعات أكثر تنوعاً وديناميكية وحيوية، ومن هنا جاء الاستثمار في الأندية الأربعة الكبار في السعودية، وقبل ذلك قام بتأسيس بنية رياضية وترفيهية صلبة لا يزال العمل جارياً عليها، وستكون مخرجاتها نقطة تحول في الداخل السعودي من مشروع القدية وشركة مشاريع الترفيه السعودية (Seven)، وأيضـاً استثمر الصندوق في تطوير قطاع الرياضات الإلكترونية عبر مجموعة سافي للألعاب الإلكترونية (Savvy Games Group)، بالإضافة إلى رعاية كثير من البطولات والرياضات العالمية في مجال كرة القدم، ورياضة الغولف، وسباق السيارات (فورمولا 1) والسيارات الكهربائية (فورمولا E) إضافة إلى الحدائق الضخمة والمسارات الرياضية النوعية.

ورغم كثير من المقالات التي تدخل في قوائم الاستهداف السطحية التي بات جلد السعوديين خشناً باعتبارهم أبناء الصحراء والرمال وفق الوصف اللاذع لوزير الطاقة السعودي، فإن إعادة الاهتمام بقراءة التوجهات الجديدة للصندوق في مجملها تدل على أن صداه وثماره بدأت تظهر في الاهتمام العالمي، ويمكن مطالعة التحقيق المطول لـ«جاكوب وايتهيد» من مجلة «أتلانتيك» (The Athletic) حول صفقة بنزيمة وملف الغولف وربطه بنقطة تحول في التلقي الغربي وهي فوز منتخب المملكة على الأرجنتين في كأس العالم بقطر، ولذلك وصفه التحقيق «التغيير الزلزالي» في عالم كرة القدم، ويكفي أن نشير إلى نقطة فاصلة تكشف عن ضرورة قراءة هذا الملف من زوايا اقتصادية إلى المنافسة للأندية في الولايات المتحدة، مثلاً على صفقة ميسي وقبلها ما حدث في الصين التي لا تحظى كرة القدم فيها بشعبية كبيرة في استقطاب نجوم عالميين، إضافة إلى ما نقله التقرير عن مصدر مجهول صرح للمجلة أن وكلاء للأندية واللاعبين الأوروبيين هم من يأتون للسعودية ويحاولون البحث عن الفرص وليس العكس.

جودة الحياة وتنويع الاستثمار مستهدفان أساسيان للرؤية الطموحة التي بدأت تؤتي ثمارها، اليوم ارتفع معدل النشاط في الشعب السعودي والمشاركة الفعالة في الرياضة من 13 في المائة عام 2015 إلى ما يقترب من 50 في المائة في عام 2022 بعد أقل من سنوات من إطلاق برامج الرؤية، وزاد عدد الاتحادات الرياضية من 32 في عام 2015 إلى أكثر من 95 في عام 2022 مع عدد سكان معظمهم 70 في المائة أقل من 35 سنة، كما أن الحضور في المشاركات الرياضية تضاعف بنسب مكررات مئوية، وهو ما يجعلنا أيضاً نضع في البال الرغبة السعودية في استضافة كأس العالم مونديال 2030، وذلك يعد تتويجاً لهذه الجهود الاستثنائية، لا سيما بعد الفوز باستضافة كأس آسيا 2027 وآسيا السيدات 2026، فضلاً عن «إكسبو» في عام الرؤية المنشود.