د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

حوارات القاهرة

استمع إلى المقالة

مضى وقت طويل منذ كتبت عن مصر آخر مرة لقراء «الشرق الأوسط»، وكان ذكرها يأتي دائماً إما في السياق الدولي، أو السياق الإقليمي، أو في إطار تيار الإصلاح الذي كان واحداً من الانعكاسات المهمة لما جرى في السنوات الأولى من العقد الماضي، عندما جرت أحداث ما سُمي «الربيع العربي».

جرى الانكسار الحاد لتبعات ثورة يناير التي قادت إلى حكم «الإخوان المسلمين»، ولم تكن الإطاحة بهؤلاء نهاية الكلام، وإنما أعقبتها 3 أمور مهمة: أولها أنه لا عودة لما قبل أحداث يناير 2011؛ وثانيها أنه لا بد من القضاء على الإرهاب؛ وثالثها أنه لابد من إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي عميق. في الثلاثين من يونيو القادم سوف يكون قد مر عقد كامل على تغيرات كثيرة في الدولة المصرية، تعاملت فيها مع متغيرات هيكلية جرى فيها مضاعفة المعمور المصري، مع تغير واسع النطاق في علاقة الجغرافيا بالديمغرافيا المصرية، من النهر إلى البحر، من 7 في المائة إلى 15 في المائة.

سار التطور المصري وفقاً لرؤية 2030، وبعد 8 سنوات من التعمير والتنمية، كان على مصر فيها أن تحدث بنيتها الأساسية، وتعيد تركيب العلاقات الاجتماعية بين الرجال والنساء، والمسلمين والمسيحيين، وبين الشمال والجنوب؛ وكل ذلك بينما تواجه جائحة «كورونا»، والإرهاب، والحرب الأوكرانية؛ ومن فوقها زيادة سكانية بلغت 20 مليون نسمة خلال عقد واحد.

تراكم هذه التحديات الضخمة دفع القيادة المصرية إلى ضرورة المراجعة التي تحدث في حياة الأمم عندما تصل إلى منعطفات صعبة، تجلت هذه المرة في أوضاع اقتصادية صعبة، وفي وصول رؤية 2030 إلى نقطة المنتصف، وكل ذلك في مصاحبة زيادة الطموحات المصرية لبناء «الجمهورية الجديدة» التي اتُّفق عليها في الوثائق الدستورية المصرية على أن تكون دولة «مدنية ديمقراطية حديثة». وقبل أكثر قليلاً من العام، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال إفطار «الأسرة المصرية» في شهر رمضان من العام الماضي، إلى حوار وطني للتعامل مع هذه المراجعة.

التجربة أثبتت أن إجراء الحوار الوطني ليس سهلاً، وبعد أكثر من عام على إعلان الفكرة تكونت أمانة عامة شملت كل القوى السياسية والاجتماعية في مصر؛ وهذه أعلنت عن بداية الحوار في مؤتمر عام، ضم كل القوى السياسية، من خلال خطاب مهم لرئيس لجنة الخمسين التي وضعت الدستور المصري 2014، الدبلوماسي المحنك، ووزير الخارجية المصري الأسبق، والأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، الذي وضع افتتاحية المراجعة من خلال مجموعة تساؤلات على لسان الجماعة المصرية. ما جاء بعد ذلك من كلمات كان عاكساً لتلك الحالة التي تعرفها الأمم، عندما تكون حققت الكثير، ولكنها في الوقت ذاته باتت تواجه تحديات أكثر، وتكاليف تلمس في علوها أطراف السحاب. ظهر ذلك عندما ظهر على سطح الخطاب المصري العام تعبير غير معتاد، هو «فقه الأولويات» الذي يحتم السعي إلى توافق قومي حول الأهداف المراد تحقيقها خلال المرحلة المقبلة.

وفي الحقيقة، فإن ذلك لم يكن أول الحوارات التي عرفتها مصر. وتعرف الذاكرة المصرية أن مطلع الستينات من القرن الماضي شهد حواراً لإنتاج ما عُرف بالميثاق الوطني؛ وفي أعقاب حرب أكتوبر (تشرين الأول) جرت حوارات أخرى لإنتاج «ورقة أكتوبر» التي شرَّعت للانفتاح الاقتصادي، وفي أكثر من مناسبة جرت مثل هذه الحوارات خلال فترة حكم الرئيس حسني مبارك الطويلة.

السمة العامة لهذه الحوارات جميعاً أنها إما كانت تؤكد على تيار سياسي جارٍ والالتفاف حوله، أو أنها تمهد لتطور مهم في المسيرة العامة للدولة. الحوار الذي بدأ قبل أسبوعين يشير إلى أنه سوف تكون له سمة تأسيسية؛ حيث كانت نقطة البداية تتعلق بقوانين الانتخابات، سواء بقانون الانتخاب المحدد لأسلوبه، وسواء كان بنظام الدائرة أو القائمة النسبية أو القائمة المطلقة، وما تلى ذلك في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ينحو إلى الاتجاه ذاته، وتشكل في مجموعها عملية إصلاح لهذه المسارات مجتمعة.

المعضلة البادية في ذلك هي أن الجمهور المصري ينتظر من المشاركين في الحوار تعاملاً مباشراً مع القضايا الملحة المتعلقة بالتضخم وارتفاع الأسعار؛ وهو تحدٍّ آخر لعملية إعادة صياغة التجربة التنموية المصرية، لكي تلائم المرحلة المقبلة بكل ما فيها من مفارقات؛ وهو معتاد أيضاً حينما تتنازع الشعوب الشُّقة التي بين التخطيط للمستقبل في ناحية، والتعامل مع ضرورات الواقع وآلامه أيضاً من ناحية أخرى.المسكوت عنه حتى وقت كتابة هذا المقال، هو تحديد المراد لما تكون عليه الدولة المصرية، وعما إذا كانت تظل أسيرة نموها السكاني، أو أن تكون على استعداد لتجاوزه، من خلال تنمية طموحة لا تنقل المصريين فقط باتساع جغرافيتهم من النهر الضيق إلي البحار والخلجان الواسعة؛ وإنما تنقلهم من إدارة الفقر إلى إدارة الثروة.

على أية حال، فإن الحوار لا يزال في أدواره وجولاته الأولى، حيث خصص لكل من أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية يوماً كاملاً كل أسبوع، ينقسم فيها المتحاورون بين الموضوعات المختلفة في لجان فرعية، يجري فيها تمثيل الأحزاب والتيارات المختلفة.

ما هو مسكوت عنه أيضاً حتى الآن «المرجعية» التي سيقوم عليها الحوار، وعما إذا كان مائلاً باتجاه التجارب الغربية المختلفة؛ حيث توجد الرأسمالية والاقتصاد الحر في ظل ديمقراطية سياسية تقطع فراسخ كبيرة لتحرير الأفراد وحرياتهم؛ أو أنه سوف يأخذ اتجاه الدول الآسيوية في شرق وجنوب شرق آسيا التي وإن قبلت بالصيغة الرأسمالية فإنها وضعتها في أطر منضبطة وحازمة، وذات كفاءة عالية في الإنجاز والنجاح.

بدايات الحداثة في مصر في مطلع القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، كانت مائلة في الاتجاه الأول؛ ولكن قراءة الحال الآن تعطي الكثير للثاني.