د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

تحديات الأم المثالية اليوم أكبر من تحدياتها في الماضي

استمع إلى المقالة

لا شيء يظل على حاله وصورته نفسها عندما يمس التغيير كل شيء؛ ذلك أن التغيير القيمي والثقافي والاجتماعي بشكل عام يفعل فعله في النسق الثقافي وفي التمثلات والمخيال، وقبل ذلك كله في الواقع الاجتماعي.
هذا السؤال حتم طرحه والتفكير فيه «المهرجان الدولي للأم المثالية» الذي انعقد، أول من أمس، بمدينة الشمس (الأقصر)، في جمهورية مصر العربية، حيث كانت تونس ضيفة شرف الدورة السابعة، وكان فرصة لطرح قضايا عدة تخص النساء العربيات إلى جانب تكريم أمهات مثاليات من مصر وتونس وفلسطين.
طبعاً أدرك جيداً أن الحديث عن الأم المثالية تميل إليه النفس، حيث الأم احتفت بها الأديان وكرمها خالق الكون وأيضاً تغنى بها الشعراء والمغنون وأنشدوا أجمل القصائد والأغاني التي لا تزال تحنو إليها القلوب. كما أن الدراما أحسنت تصوير الأم المثالية، إلى درجة أن هناك ممثلات اختصصن بدور الأم، وعلى رأسهن الممثلة المصرية أمينة رزق.
السؤال هو: هل صورة الأم المثالية كما تراها مجتمعاتنا العربية والإسلامية في الماضي القريب هي نفسها اليوم؟
إن هذا السؤال يفترض في صورة الرد بالإيجاب أن تكون صورة الأم المثالية ثابتة، وهو أمر لا يستقيم مقارنة بما عرفته المرأة من تغييرات في وضعيتها، وما تعرفه الأسرة من شكل ودور وتحديات هي بدورها جديدة؛ فالأم المثالية في الأمس هي الأم فائضة الحنان التي تسخّر كل حياتها لأبنائها وتربي أطفالها على قيم معينة. وكان البيت هو المجال الذي تؤسس فيه الأم لمثاليتها وتبنيها باعتبار أنه المكان الوحيد لها.
اليوم اختلفت وضعية المرأة، ومن ثم اختلفت آلياً وضعية الأم؛ ذلك أن الأم التي تكتفي بالبيت وأطفالها في حاجة وخصاصة لا تُعد مثالية، لأن تماسك الأسرة وتوازنها وتربية الأطفال وتدريسهم باتت تتطلب مصاريف لم يعد الأب وحده قادراً على تلبيتها في غالبية الأسر. لذلك ولكون الزوجة أصبحت شريكة للزوج في المحافظة على الأسرة من الهزات الاقتصادية وغيرها، فإن بلوغها صفة الأم المثالية أصبح يقتضي مضامين جديدة لهذه المثالية.
ويبدو لنا أن هذا الأمر مهم جداً، لأن الأسر في العالم اليوم أصبحت تتأثر أكثر من أي وقت مضى تاريخياً بما يحدث في العالم من حروب وتوترات وأزمات وجائحات؛ فالأسرة حيثما كانت تضررت من جائحة «كوفيد - 19»، والحرب الروسية - الأوكرانية أربكت الأمن الغذائي، وأضرت بالمقدرة الشرائية للأسر. بل إن الطبقة المتوسطة لم تعرف تأزماً مثلما عرفته في السنوات الأخيرة وما زالت تعرفه.
وعندما تتأثر الأسرة، فإن سقف الانتظارات من الأم يرتفع، ويصبح المطلوب منها أن تتحلى بالصمود للمحافظة على أسرتها والوقوف إلى جانب الزوج لحماية الأطفال من الفقر والحرمان والخصاصة والانقطاع عن الدراسة.
إذن الأم المثالية اليوم مطلوب منها أن تكون في الفضاءين الخاص والعام، وأن تسهم في الإنفاق على أسرتها، وأن تكون مثال العمل والجدية والنجاح والطموح كي تنقل لأبنائها، وخصوصاً بناتها، صورة مختلفة عن المرأة.
كما أن الأم المثالية في صور الماضي هي تلك الأم الحارسة للعادات والتقاليد والناقلة لمضامين التنشئة الاجتماعية الخاصة بالقيم التي تحتفل بها المجتمعات التقليدية؛ فكانت الأم المثالية تعيد إنتاج الأدوار الاجتماعية داخل الأسرة، وتحديداً بين الأطفال الذكور والإناث، في حين أنها اليوم مطلوب منها المشاركة بقوة في تغيير العقليات، وفي إنتاج أدوار لا تقوم على ثقافة التمايز بين الجنسين.
نقطة أخرى، وهي أن مهمة الأم المثالية في الماضي أسهل من مهام الأم المثالية في الحاضر: في الأمس دور الأسرة كان مركزياً وقوياً؛ هي الأولى في مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وكانت العلاقات فيها عمودية. أما اليوم في ظل تنامي الفردانية والعلاقات الأفقية والحوار داخل الأسرة وحقوق الطفل وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فإن الأم تجد صعوبات جمة في أداء دورها التربوي الحمائي، الشيء الذي يجعل من نجاح الأم في أدوارها المتعددة، حيث إنها تعمل وتربي وتحمي وترافق، مسألة ليست سهلة بالمرة، وتصبح هذه الصعوبة مضاعفة عندما تكون هذه الأم في علاقة صراعية مع الزوج، مما يؤثر على نفسيتها ومزاجها، خصوصاً أن أرقام الطلاق اليوم صادمة، مما يقودنا إلى التساؤل عن مدى قدرة الأمهات اللواتي هن في علاقات توتر وانفصال وطلاق على القيام بأدوارهن كأمهات، باعتبار أنهن يعرفن عطباً نفسياً وشعوراً بالفشل والوحدة... وهنا نفهم لماذا تميل مجتمعاتنا إلى منح لقب الأم المثالية إلى الأم الأرملة والمطلقة، أي الأم التي تربي دون معين لها ورفيق في تجربة صعبة.
طبعاً كل الأمهات مثاليات في الأمس واليوم والغد، ومهما كانت الأوضاع والأدوار... ولكن حقاً اليوم أن تكون الأم مثالية، فإن ذلك يحتاج إلى أضعاف استحقاقات الأمس.