محمد مصطفى أبو شامة
كاتب وصحافي مصري
TT

رحلة «الكنال» من «الكوبانية» إلى «الطشت»

درج المصريون القدماء - قبل أكثر من مائة عام - على أن يطلقوا على كل شركة أجنبية «الكوبانية» ووصلت مع لغتنا العربية إلى «القوبانية»، والتي هي في أصلها الإنجليزي: Company.
وشاء قدري أن أولد في منزل يقع أمام «قوبانية المياه» في حي روض الفرج بشبرا، لأب نشأ وترعرع في مسقط رأسه مدينة السويس الباسلة على أمل الالتحاق بالعمل في «كوبانية الكنال» وهي قصته المفضلة التي كان يحكيها لي عند كل زيارة نقوم بها إلى مدينة السويس، وبين الـTwo Companies أو «القوبانيتين» تاهت المعاني، واضطرب فهمي وعلاقتي باللغتين قبل أن تمر سنوات لأدرك أن الأمر لا علاقة له بـ«لغة» بل كان من باب «الاستغراب».
ويأتي السادس من أغسطس (آب) 2015 يوم قناة السويس وافتتاح «جديدها» الذي اتفق العالم على أنه «كنال» جديدة، بينما رأى البعض أنها فقط «تفريعة»، وتفنن ضعاف النفوس في تصغيرها حتى وصل بأحدهم الحقد لوصفها بـ«الطشت». و«الطشت» عند عموم العرب هو «كنال» بلاستيكية تشترى من الـ«هايبر» أو «كارفور»، من أجل استحمام الأطفال والكبار في المنازل الفقيرة التي يوجد بها طشت ثابت بحجم أكبر يسمى «بانيو».
واستدعى يوم الافتتاح العظيم للقناة الجديدة، زخمًا من ذكريات الطفولة، فقد كان شاطئ القناة القديمة، «الخروجة» المفضلة والوحيدة خلال زيارتنا لمدينة السويس، حيث الصباح مع أحلى الأوقات في نادي هيئة القناة الفاخر والمفتخر، والسباحة عبر شاطئه الراقي والاستمتاع بيوم جميل بين أنشطته وأطعمته المختلفة، ثم المساء وأحلى «تمشية» على «شط الكنال» مع ما لذ وطاب من «ذرة مشوي» وترمس و«آيس كريم»، وقد يسعدنا الحظ بأكل «السورمباء» وهو من عائلة الأصداف البحرية قريب «الجندوفلي» و«أم الخلول» و«السيرديا»، وأخيرا لعب الكرة في الحدائق المنتشرة بطول سور الشاطئ أو ركوب الدراجات في زمن الصبا أو معاكسة البنات في سن المراهقة.
تداعت الذكريات في حديث مع والدي، شفاه الله، وهو يحكي لي سعيدا وفخورا عن حفل افتتاح القناة الجديدة، فباغته سائلا عن سر رغبته القديمة الدفينة بأن يعمل في «كوبانية الكنال»، فضحك وروى لي أن العمل في «الكوبانية» التي أصبح اسمها بعد التأميم عام 1956 «هيئة قناة السويس»، ليكون اسمها الدارج «الهيئة»، كان حلم جيله من شباب مدن القناة الثلاث (السويس والإسماعيلية وبورسعيد)، خاصة بعد أن منح قرار تأميمها الفرصة للعمالة المصرية للوجود بكثافة وكفاءة بعد أن كان العمل في «الكوبانية» حكرا على الأجانب منذ أن أنشأها الفرنسي ديليسبس في منتصف القرن التاسع عشر، واستطرد الوالد في وصف الوظيفة ومميزاتها وراتبها المحترم، وتذكر ضاحكا أنه في سالف الدهر عندما كان طفلا، كان يغني مع أقرانه في شوارع الأربعين (أحد أحياء السويس الفقيرة) قائلين: «كوبانية غنية.. تدي بالألف والمية.. فلوسها على الأرض مرمية»، تدليلا على قدرات الشركة المالية وكثرة أموالها، ثم ختم الوالد حديثه قائلا: أياااااام.
وهنا توقف شريط الذكريات أمام الحاضر وتفاصيله، والمشهد المتفرد الذي صنعته مصر في تجربة «القناة الجديدة»، إن صناعة الإنجاز في هذا الزمن أقرب للمستحيل، أما الاختلاف على قيمة مشروع فهو أمر صحي وجيد وطبيعي من ذوي العلم والخبرة، لكن الجدل والدجل من الجهلاء حول معجزة بشرية شيدت في ظروف معقدة يعتبر غباء سياسيا وانتحارا أخلاقيا.
إن معجزة حفر الـ«تفريعة» أو «طشت أم وجدي»، كانت أقرب إلى الخيال، وكانت فكرة مطروحة منذ سنوات مرت أمام أنظمة سابقة، لكنها لم تمتلك الإرادة السياسية والقدرة على الحلم الذي يسخر منه البعض اﻵن. مشروع القناة الجديدة رمز لإرادة نظام على الفعل، وقدرة شعب على الحلم في عالم كئيب مغرم بالدم والهدم. مشروع القناة لا يصح اختزاله كمشروع اقتصادي كما يحاول البعض أن يسحبنا معه لنغرق في جدل عقيم.. إنه حلم أمة فرت من كابوس إخواني «حاكم» كاد يعيدها إلى الجاهلية لتبحر نحو مستقبلها، أمة هربت من أرباب «الطشت» والمسجونين داخله لتحاول السباحة في أفق يتسع فضاؤه لطموحاتها.