عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

انتحار «الأبلة» الناظرة

تعمدت اختيار عنوان بالكلمات الكلاسيكية لجيلي القديم «الأبلة الناظرة»، وليس المستحدث «مديرة المدرسة»، لاعتقاد الأغلبية (التي تمسك لسانها خشية تهمة الكفر بـ«الصوابية السياسية»)، أن تسمية المؤسسة والمناصب وألقاب شاغليها تعبر عن مفهوم الحكومة والمجتمع والمسؤولين عن وعي الجهة المعنية برسالتها ومهامها ومسؤولياتها، فينعكس ذلك في مدى جودة الأداء والقدرة على تلبية حاجات المواطنين التي تمولها ضرائبهم، ونجاحها في تحقيق الأهداف التي من أجلها تأسست. وبالتالي، فإن تغيير أسماء المؤسسات ولقب الوظيفة جلب معه تغيراً في الأداء، لا يراه كثيرون، خصوصاً أولياء الأمور، نحو الأفضل، بدليل انخفاض المستوى المعرفي للتلاميذ وتدهور سلوكهم.
ورغم أن الحكاية من بريطانيا (ونظامها التعليمي تتمناه عشرات البلدان)، فإن خلفياتها التي تدعو للقلق، هي درس ينسحب على كثير من البلدان من زاوية تغيير المفاهيم في رسالة المؤسسات التعليمية.
روث بيري، قضت اثنين وثلاثين عاماً في مجال التعليم، اثني عشر منها ناظرة مدرسة ابتدائية في ريدينغ (60 كيلومتراً غرب لندن)، محبوبة من أولياء الأمور الذين يتهافتون على إرسال أطفالهم لمدرستها التي تعد من أفضل مدارس مقاطعة باركشير. انتمت المربية الفاضلة إلى جيل يرى التعليم مشروعاً لتكوين الإطار الثقافي للتلميذ أبستمولوجياً، ورأت تدريب الطفل على توظيف قدراته الذهنية على وسائل الحصول على المعرفة رسالة حياتها.
المكتب القومي لتقييم مستويات خدمات التعليم والمهارات للأطفال (ويعرف بالأحرف الأولى لكلمات التوصيف «أوفستيد»)، ويزور مفتشوه المدارس لتقييم مستوى المدرسة (الذي قدره في آخر تفتيش قبل أكثر من عقد كامل بـ«ممتاز»)؛ في تفتيش قبل ثلاثة أشهر وصف مستوى مدرستها بـ«غير كافٍ» لخدمة الأطفال بالإنجليزية (inadequate)، مما أصاب الأبلة روث بقلق واكتئاب.
انتحار السيدة بيري أدى إلى أزمة بين النقابات المهنية المختلفة في مجال التعليم و«أوفستيد». بعض المدارس رفضت السماح بالتفتيش حتى يعدل المكتب معايير القياس، لتعكس مستويات مجالات التعليم ومهارات التلاميذ وأدائهم، بدلاً من وضع إشارات على استمارة صممها برنامج كومبيوتر. معلمو ومعلمات مدارس عديدة وقفوا في صف احتجاج أمام مداخل مدارسهم، وآخرون بشارات سوداء على أبواب الفصول عند زيارة مفتشي «أوفستيد». «أوفستيد» أصدر بياناً أول من أمس بأنه سيستمر في التفتيش؛ لأن تقرير المكتب يساعد الأسر على اختيار المدارس التي يرسلون إليها أطفالهم.
محل النزاع أن المعلمين يرون مفتشي «أوفستيد» بيروقراطيين لا يفهمون ثقافة التعليم، فأوكلوا التقييم لتصميم برنامج كومبيوتر لا عقل له.
«أوفستيد» في شكله الحالي بمثابة ما تعرف في مصر بـ«مصلحة»؛ تعبير فرنسي (intérêt) لإدارة مصالح الناس. لكن «أوفستيد» لا يتبع وزارات ويرفع تقريره مباشرة للبرلمان (مجلس العموم) ممثلاً للشعب، ورئيس مفتشيه مستقل عن الحكومة، ويعين عن طريق التاج من مجلس فرعي لمجلس مستشاري الملك.
تاريخ إشراف الدولة على التعليم يعود إلى 1833 بتخصيص البرلمان ميزانية للجمعية القومية لدعم التعليم بدلاً من الكنيسة الإنجليكية، لتشمل بعد ذلك مدارس الطوائف والأديان الأخرى، وتوسع ليشمل المدارس الثانوية في 1902؛ وبعد تسعين عاماً بالضبط، أنشأت حكومة جون ميجور (1990- 1997) «أوفستيد» لتقييم المدارس، سواء الحكومية أو الخاصة، في كل أنحاء المملكة، لينشر تقريراً سنوياً عن أداء المدارس لإعلام المؤسسات التعليمية وأولياء الأمور والحكومة، بعد أن كان التقرير يقدم فقط إلى وزارة المعارف (التعليم).
حكومة توني بلير (1997- 2007) في تعديلات عامي 2001 و2006 طورت «أوفستيد» إلى الشكل الحالي ليشمل تدريب المعلمين، ورياض الأطفال (الحضانة)، وخدمات التبني، ووكالات المربيات ورعاية الأطفال، والملاجئ، وكل ما يتعلق بالأطفال.
هنا تظهر أهمية التسميات؛ مثلاً كلمة «ناظر» من نظارة (وزارة) هي التوجيه والقيادة والإشراف والمراعاة، بدلاً من «مدير» التي تعني الإدارة؛ أما صفة «الأبلة»، التي ينادي بها الأطفال المعلمة، فتعني «الأخت الكبرى» التي تأخذ بيد الصغار. مثلاً رئيسة الممرضات تسمي «السيستر»، أي الأخت الكبرى، وقد ورثت التسمية من أيام كانت الكنيسة تؤسس المستشفيات (وكثيرها في أوروبا على أسماء قديسين وقديسات؛ لأنها بنيت بجوار دور العبادة الحاملة للأسماء نفسها). «الأبلة الناظرة» هنا الأخت الكبرى التي تأخذ بيد التلميذات والمعلمات الشابات لتوسيع الأفق وتدريب الذهن على المعرفة. في بريطانيا خبراء التعليم المعرفي الكلاسيكيون ممتعضون من تحويل لقب الناظر والناظرة إلى التعبير اللاجنسي «المعلم الأول» (مثل الوزير الأول).
وزارة المعارف المصرية قبل الخمسينات أشرفت على الثقافة وترجمة الكتب والفنون والمسرح والموسيقى والرياضة ومحو الأمية، فرسالتها كانت «معرفية» أبستمولوجية لتكوين وتنمية الإطار الثقافي للفرد، بجانب تدريب المعلمين استعداداً للمستقبل.
التفاصيل من أوراق المرحوم جدي، وكان ناظر مدرسة كبرى في الإسكندرية، وبعد خروجه للمعاش كان مشرفاً على برنامج وزارة المعارف لمحو الأمية. السبب أنه بدأ في مدرسته تقليد حصة أشغال للمتعرقلين أكاديمياً، لاكتشاف صلاحياتهم لحرف أخرى في الصناعات والمتاجر وورش الميناء وإصلاح السيارات، لأنه رأى رسالته أن ينجح التلميذ كمواطن سوي مثقف الفكر، حتى بلا شهادة ورقية.
وحتى يومي هذا عندما يهنئني أحدهم على عمل ناجح، أو أقرأ مقالة إيجابية لنقد كتاب نشرته، وأتذكر ما غرسه معلمو مدرستي في رأسي الصغير، أقف لهم تبجيلاً، إذ كاد المعلم أن يكون رسولاً.
من المنطلق نفسه، أن التعليم رسالة معرفية ثقافية حضارية، يندلع النزاع اليوم في بريطانيا بين المتخصصين في التعليم، وبين مفتشي «أوفستيد»، الذين يملأون استمارات الكومبيوتر كالروبوت بلا تفاصيل كافية؛ وتصبح مدرسة ناجحة في مجال التعليم المعرفي وتوسيع المدارك «غير كافية للاحتياجات» بسبب غلطة بيروقراطية.
السيدة بيري ذكرتني بـ«سنية» هانم، الأبلة الناظرة في مدرسة بنات شهيرة في الإسكندرية؛ لم تتزوج أبداً، وهبت حياتها للمدرسة كراهبات الدير (اللاتي أشرفن على تعليمها قبل دراستها الجامعية في فرنسا) ورسالتها مقدسة كالأخت الكبرى في دار التمريض أو الدير وهي التعليم المعرفي للبنات، فلا وقت للحب والزواج.
وهنا نفهم مدى وقع الصدمة على الأبلة روث، التي رأت أن إعلاناً «ظالماً» يفسره البعض على أنه فشل في رسالتها التي وهبت لها حياتها... يعني إنهاء رسالتها في الحياة.