د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الفضيلة المنسية

كان الخطيب المفوَّه قس بن ساعدة، يردد عبارته الشهيرة قبل بدء خطبته فيقول: «أيها الناس: اسمعوا وعوا». وهي دعوة للاستيعاب فما أكثر من يُلقي السمع لكنه ألقى ذهنه وتركيزه في وادٍ آخر! ولذلك هناك فارق كبير بين الاستماع والإنصات، فالأخير أعلى مرتبة وفيه سكوت مقصود بغرض فهم ما يتناهى إلى أسماعنا. وهو باختصار ذروة المودة والاحترام، ومؤشر على مكارم الأخلاق.
كل حواسنا مدينة لفضيلة الإنصات المنسية التي تقف وراء بذرة العلم الأولى. والدهشة الأولى. فأول ما يتشكّل في الجنين وهو في بطن أمه حاسة سمعه. بعدها تتطور سائر الحواس. فنحن نسمع قبل أن نشاهد، ونسمع قبل أن نستشعر حاسة اللمس والتذوق.
الأذن وعاء المعرفة. وبدقائق معدودة يميز المرء بين الغث والسمين مما يتناهى إلى أسماعه. فأذن الواعي كذهنه تعمل بطريقة نقدية (critical). فلا تأخذ الكلام على عواهنه من دون تأمل وتمحيص وتحدٍ. وصارت حاجتنا «لفلترة» ما نسمع في عصرنا أكثر من أي وقت مضى بسبب أطنان المعلومات والفيديوهات التي تنهمر علينا طوال العام.
وتحرك الآذان وشائج المودة منذ بدء الخليقة. فكل قصة حب لم تخلُ من قلب يهفو عند سماع صوت الحبيب. ولو لم يجد المتحدث أو المجروح أذناً صاغية لضاقت عليه الأرض بما رحبت. ولولا فضيلة الإنصات لما كانت هناك سوق عكاظ التي أعتبرها ميداناً لأدب الإنصات للشعر العربي. ولولا أذن العربي واحترامه للمتحدث لانفضت سوق عكاظ وتبعثرت مواهب الشعراء وديوانهم.
والمتتبع لهذه الفضيلة يجدها تتربع على عرش مهارات التواصل الأربعة، إذ نقضي 40 في المائة من وقت اليقظة في الاستماع، و35 في المائة في التحدث، و16 في المائة في القراءة، و9 في المائة في الكتابة، حسب دراسة ذكرتها في كتابي «أنصت يحبك الناس» ضمن سلسلة كتبي بعنوان «الإنصات الفضيلة المنسية».
ورغم أهمية الإنصات إلا أنه أقل المهارات الأربعة تدريساً. فقد كشفت لنا دراسة للباحث د. محمد البشري عام 2017، أن كتب اللغة العربية المقررة في السعودية على طلبة المرحلة المتوسطة، بما فيها كراس النشاط المدرسي، تعاني من قصور تضمين مهارة الاستماع، حيث جاءت في المرتبة الأخيرة بين مهارات اللغة، حسب بحثه المنشور في مجلة العلوم التربوية الصادرة من جامعة البحرين. وقد قرأت دراسة أردنية شبيهة للباحث أكرم البشير خلصت إلى شيء من هذا القبيل.
أما د. محمد الصويكري من جامعة الملك عبد العزيز (عام 2019)، فكشف لنا عن دراسات سابقة أظهرت وجود علاقة وثيقة بين تفوق التلاميذ في دراستهم إذا ما كانوا متفوقين في مهارة الاستماع. وأن الطالب يقضي نصف وقته (51 في المائة) في الاستماع، ويأتي 15 في المائة مما يتعلمه عن طريق حسن إنصاته.
أرى أن هجر فضيلة الإنصات نابع من ثقافتنا العربية الشفهية. فنحن نمجد المتحدث وننظر بعين الريبة والشك والتساؤل تجاه من يرمقنا بنظراته. نتسأل لماذا لا يتحدث، لكننا ننسى أن السكوت من ذهب. وننسى أن من أبجديات احترام المتحدث منحه آذاناً صاغية.