د. علي عواض عسيري
سفير السعودية الأسبق لدى لبنان
TT

كفى أولئك (إياهم) زلزلة بلبنان

في الكثير من التأمل فيما آلت إليه الأوضاع في مدن وبلدات تركية وسورية بفعل الزلزال، وما أعقب الزلزال من عشرات الارتدادات، كان الأسى يتكاثر في نفسي على ما حدث، خصوصاً منظر مئات المباني التي تهاوت بمَن فيها من عائلات كانت مستغرقة في النوم، ثم في خلال دقائق تنتهي تحت الركام، ثم تشاء إرادة المولى عز وجل أن يكتب للبعض سبيل النجاة فيما الألوف أسلموا الروح. إنها مشاهد تبعث في النفس الأسى العميق كما أن الحدث في حد ذاته يجعلك تخلُد إلى كثير من التأملات والافتراضات، ومن دون أن يغيب عن البال كيف أن إحدى ثمار «رؤية السعودية 2030» - التي يرفدها وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بالجديد دائماً من الخطوات التي تُبهج نفس رمز البناء والتطوير خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله للأمتين - هدية علمية فضائية للشعب السعودي، ولشعوب الأمتين، وتتمثل في أن «الهيئة السعودية للفضاء» ستشارك في عملية استكشاف نوعية للفضاء وسترسل لهذه المهمة الرائد علي القرني والرائدة ريانة برناوي في أحد أيام الربع الثاني من العام 2023. إنه حدث يثلج الصدر العربي العابق بالأسى، كونه يرسم في المشهد حيزاً من الآمال المرجوة بأنه لا بد لظلمات ليالي بعض ديار الأمة أن تنجلي ويبزغ فجر يضيء ويبعث الثقة في النفوس ويبدد هذا الإحباط الذي يعيشه البعض.
وتراني فيما يدور في الخاطر من التأملات المقرونة بالافتراضات، أجد ماثلة أمامي الحالة التي يعيشها لبنان، كوني بحكم واجبي سفيراً سابقاً للمملكة لدى لبنان، حفلت سنواتي الست بالوقوف ليس فقط على الخصائص، وإنما أيضاً على ما تخفيه نفوس البعض من الذين يتصدرون قيادة الناس حزبياً أو شعبوياً.
وأجد نفسي في هذا الخصوص أتساءل؛ لقد شاءت الأقدار أن تزلزل الأرض زلزالها في تركيا وسوريا وانتهت خراباً ودماراً وأرواحاً تحت الركام. ثم استتْبَع ذلك أن عشرات الألوف من الرجال والنساء والأطفال باتوا في العراء في انتظار خيام تأويهم وتقيهم وطأة الصقيع ونجدات إغاثة تصلهم. ولقد كان الأشقاء العرب أصحاب نخوة تجاه الذين باتوا بلا مأوى ولا غذاء ولا دواء، ومن دون التمييز بين هذا عربي وهذا تركي أو هذا مسيحي وذاك مسلم، وذلك يهودي أو هندوسي، وتلك أخلاقيات يتمنى المرء أن تسود. كما كانت دول أجنبية كثيرة عند حُسْن المساندة. الأمر الذي يعني أن السلام على الأرض صنو المحبة في الناس هو ما نحتاجه في هذا الزمن.
ما يصعب على المرء مثل حالي أن يتفهم هذه الزلزلة السياسية في لبنان التي هي من صُنْع الذين من واجبهم كسياسيين وزعماء أحزاب أن يكونوا حراساً للوطن، وحماة للعلاقات مع الأشقاء العرب ومع دول العالم، وبما يُبقي نعمة النهوض العمراني بعد زلزال حرب السبعينات من دمار وخراب وعداوات، صامدة ومنزهة عن تلاعُب المتلاعبين. كذلك ما يصعب على المرء تفهُّمه كيف أن أولئك (إياهم) وخصوصاً الأكثر عناداً بين أولئك السياسيين وزعماء الأحزاب، يدفعون بوطنهم وبالبنيان الشامخ نحو التهالك، فلا يحسمون أمر انتخاب رئيس للجمهورية، ويستمرون كما نيرون روما مستعذبين رؤية مكابدات الوطن والشعب من هزات؛ أحياناً غذائية، وأحياناً دوائية، وأحياناً صحية، وأحياناً بترولية، وأحياناً زراعية، بدلاً من تأمين حالة من الاستقرار تبدأ نسبياً، ثم يتم دعمها خطوة خطوة.
وإذا كان التماهي بأن اللعبة الديمقراطية تفرض ذلك، فإن ما يمكن قوله لهم في هذا الشأن؛ هذه قبرص أقرب جارة بحرية لكم فيها من الأحزاب الكثير من اليميني إلى الاشتراكي إلى الشيوعي إلى مرتضي واقع الحال؛ انقسام الجزيرة قبرصين، وفي المقابل الساعي إلى التئام جرح الانقسام، فلا تبقى قبرص التركية، التي لا أحد من دول العالم عدا تركيا يعترف بها. ورغم هذه التناقضات وحرصاً على سمعة الوطن وكرامة المواطن وطمأنينته انتهت ولاية رئيس الجمهورية وبادر النواب، وكل يوازن بين مشاعره وبين واجبه، واختار من بين اثنين من الدبلوماسيين العريقين رئيساً للجمهورية، ومن دون أي زلزلة كتلك التي باتت غير مقبولة من جانب نواب لبنان، مع الأخذ في الاعتبار أن ناخبيهم لو كانوا يعرفون أن سلوك نوابهم عند استحقاق بالغ الأهمية مثل استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية محل رئيس انصرف سيكون على نحو الذين يعيشون فصوله الهزلية عموماً، فإنهم كانوا امتنعوا عن التصويت لهم. لذا يا أُولي الواجب الانتخابي لرئيس جديد للجمهورية اللبنانية تمثَّلوا بما فعله أقرانكم القبارصة، وتوقفوا عن هذه الزلزلة، تعززون بما لا تؤدونه من واجب، تحويلها إلى ما قد يشعل البيت ناراً، وعندها لن تجدوا في الساحة حريرياً من نسيج رفيق الحريري الذي تُشكل الذكرى الثامنة عشرة لتغييبه جريمة من نوع جريمة تدمير مرفأ بيروت وجرائم اغتيالات ممنهجة، وكما لو أنها لائحة بالأسماء مُعدة سلفاً لقافلة من رموز واعدة في العمل السياسي والإعلامي والأمني. كما لن تجدوا مُسْعفاً كذلك المتمثل بـ«اتفاق الطائف» الذي هو شتلة وفاق مثالي، وبدل أن تُسقى تربته، فإن بعض محترفي زلزلة الأوضاع في لبنان يمعنون سعياً لإذبال هذه الشتلة.
لقد كنت كمحب للبنان، لا أتمنى فقط صمود شعبه الطيب، وإنما أن يتخذ أُولو الأمر السياسي والحزبي من محنة الزلزال التركي - السوري وارتداداته ما يجعلهم يتنبهون إلى أن ما حدث في الجوار وإن كان بعيداً يمكن أن يحدث في لبنان. ومجرد افتراض ذلك يوجب حُسن التعامل مع الأزمات، لكن الأمثولة لم تحدث. ورأينا لبنان في تَعامله اثنين... إلى درجة أن أحدهما كان نقيض الآخر، وبذلك فقدت النجدة الأخوية معناها العفوي والإنساني الموحَّد.
ويبقى من الافتراضات التسجيل بأنني مثل كل الحريصين على لبنان ومحبيه أن يرى الذي لا يترك مناسبة ذم في حق الذين يقفون بصدق وعزم مع لبنان، وخصوصاً في أزمان ضرّائه، إلا ويرميهم بما هو الأسوأ من الكلام، في محنة الزلزال التركي - السوري وارتداداته فرصة لإعادة نظر في مفردات إطلالاته، وبما يؤدي إلى صفاء لبنان صاحب الوجه العربي. ويقلب بدورهم الساعون في رحاب مجلسيه الصفحة التي أضرت بما حوت من مفردات غير مستحبة تستهدف دول الخليج التي تبقى هي السند في الملمات... إنما عندما تكون النيات لدى البعض من أهل السياسة والحزبية في لبنان على درجة من الطيبة، وهذا يعود بالخير العميم ويضع لبنان على سكة السلامة والاستقرار.
كما من جملة الافتراضات، المختص بالرئيس بشَّار الأسد الذي كان الزلزال أفضل تنبيه له كي يخاطب الأمة بالكلام الذي يجعل القلوب تصفو بعض الشيء نحو النظام، ثم تعيد الوقفات المباشرة وغير المباشرة وضْع سوريا على سكة قطارها العربي الذي ينطلق متأنياً في اتجاه الوصول إلى محطة تضميد الجراح المعنوية والسياسية.
مع تكرار التمني للبنان بأن ينجو من زلزلة بني قومه من أهل السياسة والأحزاب والولاءات غير المستحبة، عسى أن تكون الهداية قريبة، وعسى أن تبرأ جراح الذين نجوا من الزلزال التركي - السوري وارتداداته وتطمئن نفوسهم في مأواهم.
والله هو المعين لمن يسير على الصراط المستقيم.

لدى لبنان