فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

هواجس إيران مع حلفائها

يقودنا تأمل المبادرة التركية في الانفتاح على نظام الأسد والمصالحة معه على طريق تطبيع العلاقات بين الطرفين إلى قول، إن الإبعاد الإقليمية والدولية للمبادرة تتضمن توسيع الحضور والدور التركي في سوريا، وهو أمر لا يمكن أن يتم من دون تأثير مباشر على حضور ودور الإيرانيين والروس الذين يسيطرون على القسم الرئيس من الفضاء السوري، تاركين جزءاً منه للطرف الأميركي الحاضر مقنعاً خلف حليف محلي تجسده «قوات سوريا الديمقراطية» في شمال شرقي البلاد، وحليف أصغر قرب قاعدة التنف في الجنوب باسم «جيش سوريا الحرة» (مغاوير الثورة) سابقاً، وكله مضافٌ إلى قسم محدود في شمال غربي البلاد تحت السيطرة التركية.
وإذا كانت مخاوف روسيا من الدور التركي في حدود دنيا على اعتبار موسكو هي القوة الدافعة لأنقرة باتجاه مبادرتها السورية، إضافة إلى علاقات واسعة ووثيقة ومجرّبة بين الطرفين، فإن إيران التي لم تشارك الدور الروسي، تبدي بعض الحذر حيال المبادرة التركية، وهو ما صدرت عنه إشارات إيرانية كثيرة، أبرزها عن وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان في خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق ومباحثاته هناك، حيث أشار إلى علاقات طهران - أنقرة القوية، وركز على تشاركهما في آستانة من دون أن يذكر روسيا شريكهما الثالث والأهم بأي كلمة.
دواعي الحذر الإيراني حيال المبادرة التركية في سوريا تتصل بالدور المتنامي للعلاقات الروسية - التركية، التي تعززت بقوة في السنوات الأخيرة، ليس في المستوى الثنائي فحسب، بل في مستوى علاقات تركيا بقضايا حساسة ومصيرية بالنسبة لموسكو، خاصة التقارب مع دورها في سوريا من جهة، وموقفها من الصراع الروسي في أوكرانيا وما يحيط به، وقد لعبت أنقرة أدوراً مهمة في الحالتين؛ مما جعل موسكو إلى جانب أسباب أخرى، تضغط على أنقرة من أجل توسيع دورها وحضورها في سوريا باعتبارها صديقاً وحليفاً لروسيا، يمكن أن يشغل حيزاً من فراغ الانسحابات الروسية من سوريا لتعزيز قوة روسيا في أوكرانيا.
وتستجيب مساعي التمدد التركي في المشهد السوري للطموحات الواضحة في استراتيجية تركيا وسياساتها، ويحظى تمددها ربما ببعض القبول العربي؛ لأنه يحدّ من قوة إيران في المنطقة، ويمنع بدرجة ما إحكام القبضة الإيرانية على سوريا والاستفراد بها على ما هو الحال في العراق ولبنان، وقد باتت طهران المتحكم في مسارات بلدان عدة، وخاصة في الجوانب السياسية والاقتصادية.
ومما لا شك فيه، أن إيران تدرك كل ما يحيط بمساعي وطموحات تركيا، وتراقبها بكل مجرياتها وتفاصيلها، واحتمالاتها، وتسعى إلى تحويل جهود أنقرة لتتقاطع مع مصالح إيران ونظام الأسد، ورغم حقيقة التنافس بين البلدين الجارين، فإنها تستند في مراهنتها إلى مجموعة عوامل، بينها أن تركيا شريكة لها مع روسيا في إعلان موسكو وفي آستانة، وكلتاهما رسمت حدود الموقف المشترك إزاء الملف السوري، وقد أثبتت تركيا حضورها الإيجابي في هذه الشراكة خلال السنوات الماضية، كما أن علاقات قوية تربط الطرفين وبين مؤشراتها مبادلات تجارية حجمها السنوي نحو ثمانية مليارات، يسعى الطرفان لرفعها إلى ثلاثين مليار دولار سنوياً، وأن تركيا مارست سياسة تخفيف العقوبات الدولية على حكم الملالي، وتستمر علانية في انفتاحها التجاري على إيران وخاصة لجهة استيراد النفط والغاز، وتصدير السلع والبضائع التركية.
ورغم ما يظهر من قوة علاقات إيران مع نظام الأسد الممتدة عقوداً والتي تعززت أكثر في سنوات العقد الأخير، فإن إيران بسبب ظروف داخلية وإقليمية ودولية، صارت أكثر حذراً إزاء مبادرة المصالحة التركية مع نظام الأسد، التي يمكن أن تقدم للنظام، إذا تمت دعم ومساندة تساعده في التغلب على الصعوبات والمشاكل التي يواجهها، وتساهم في تأهيله وعودته إلى المجتمع الدولي بعد كل ما ارتكبه من جرائم، لكنها في الوقت نفسه ستمثل تمدداً تركياً في القضية السورية، تعارضه طهران؛ لأنه يؤثر سلباً على الحضور والدور الإيراني.
وسط تشابك السياسات والأهداف الراهنة في المنطقة وحول الوضع في سوريا واحتمالاته، ظهرت هواجس ومخاوف إيران وخاصة حيال الأطراف ذات العلاقة والتأثير في سوريا وحولها، وركزت جهودها في أمرين، أولهما تقوية أسس وجودها في سوريا وإعطاؤه مزيداً من القوة عبر ضغوط واتفاقات تعقدها مع حكومة الأسد وسط أزمة خانقة يواجهها حالياً على المستويات السياسية والاقتصادية، وقد تم تمرير محتويات اتفاقات تتعلق بإمدادات النفط والاستثمارات، واتفاقات إملاء تخرق السيادة السورية، تعطي الإيرانيين حق المعاملة مثل السوريين، من دون إخضاعهم للقانون السوري بحيث تتم مقاضاتهم أمام المحاكم الإيرانية، والأمر الآخر فيما تسعى إليه إيران في سوريا، هو إعادة تقييم الوضع السوري وحدود مواقف نظام الأسد من المبادرة التركية في أبعادها المختلفة، وتأكيد حضور ودور إيران في سوريا بما فيه التعامل مع المبادرة التركية، وقد صدرت إشارات متعددة عن مسؤولين إيرانيين بهذا الاتجاه، يضاف إليها توجه وزير الخارجية حسين عبداللهيان إلى أنقرة في خطوة تسبق زيارة الرئيس الإيراني القريبة إلى تركيا.
خلاصة الأمر، أن إيران التي تواجه أوضاعاً داخلية صعبة، تعيش مرحلة قلق وهواجس حيال حلفائها؛ مما يدفعها إلى اتخاذ خطوات وإجراءات، أهمها في سوريا وحولها، وتدقيق في الأوضاع المحيطة ومنها المبادرة التركية حيال نظام الأسد في إطار مساعي طهران ترتيب وتدقيق بعض علاقاتها مع الأطراف الأقرب إليها وفيهم الروس وتركيا ونظام الأسد؛ حتى لا تحصل أي مفاجآت غير محسوبة تلحق ضرراً بوجود إيران في الإقليم عموماً، وفي سوريا على وجه الخصوص.
ولا يحتاج إلى تأكيد قول، أن كل التحركات والإجراءات، لا يمكن أن تطمئن إيران؛ ذلك أن الوضع في المنطقة وخاصرته الهشة في سوريا وحولها، لا يحسم من خلال إيران والثلاثة الأقرب إليها، بل إن فيه قوى فاعلة إقليمية ودولية ذات تأثير بينها بعض البلدان العربية وإسرائيل، إضافة إلى أوروبا والولايات المتحدة، وهذه كلها لا تملك أوراقاً مهمة في ملفات المنطقة والموضوع السوري فحسب، بل كلها أصبحت في صراع واسع ومعلن مع طهران، وأكثرها بات يتطلع إلى إخراج إيران من سوريا، إن لم يكن من أجل السوريين ووقف معاناتهم، فمن أجل وقف تمدد إيران وسياساتها التوسعية والعدوانية في المنطقة.