د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

الرياض عاصمة إقليمية ودولية

في مؤتمر جزيرة بالي الأخير «لمجموعة العشرين» المنعقد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، شبَّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الصراع والتنافس الحاد بين الولايات المتحدة الأميركية والصين بـ«مواجهة تدور بين فيلين ضخمين، إذا حدثت المواجهة بينهما ستؤثر أبعادها على بقية عناصر الغابة كلها»، بما يعني أن هناك حاجة ملحة تستدعي وجود قوة تفصل بينهما... تعكس هذه العبارات مدى التطور الذي أصبح يسيطر على العلاقات الدولية.
لم تعد أوروبا، ولا الغرب بصفة عامة، الطرف المسيطر على مشهد السياسة الدولية، مثلما لم تعد العلاقات ثنائية القطب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
فقد ظهرت على السطح قوى صاعدة أصبحت جزءاً أساسياً من المشهد الدولي في إطار عالم متعدد الأقطاب. يمكن القول من دون مبالغة عودة الإمبراطوريات القديمة، مثل الإمبراطورية الصينية، إلى احتلال الصدارة مجدداً كما كانت في السابق.
وتراجعت مكانة الإمبراطورية التي كانت تعتبر الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس! وكذلك الحال نفسها بالنسبة لفرنسا، الإمبراطورية الاستعمارية الأخرى.
لهذا أزعج الغرب كثيراً الاختراق الصيني للقارة الأفريقية عبر الاستثمارات الضخمة التي بلغت 125 مليار دولار في الفترة بين عامي 2000 و2016، وهي أكثر من المبالغ التي تعهَّدت منظمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجموعة العشرين بمساعدة أفريقيا بها.
وبذلك تتعامل أفريقيا مع طرفين متنافسين لتعزيز مصالحهما في القارة، أحدهما طرف «براغماتي ذو سياسة واقعية»، حيث تحمل معها الصين دفتر الشيكات في علاقاتها الخارجية، حسب تعبير إحدى الدوريات الأفريقية، بينما يركز الجانب الغربي أكثر في تعامله مع الدول النامية على إعطاء الدروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتبني الأرثوذكسية المالية.
والسؤال هنا: ما موقع العلاقات الصينية - العربية ودوافعها في تنمية مصالحها في المنطقة، وهل يمكن اعتبار وفقاً للتعبير السابق، أنها تستخدم في آلية تعاونها مع العرب دفتر الشيكات كما قيل في علاقاتها مع أفريقيا، أم أن الأمر هنا مختلف.
الشيء المؤكد أن الصين في علاقاتها مع السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي تختلف، لاختلاف احتياجات هذه الدول عن أفريقيا، وقد يكون الوضع غير ذلك في علاقة الصين مع بعض الدول العربية الفقيرة في أفريقيا، التي هي في حاجة إلى المساعدات والاستثمارات المالية لبرامجها التنموية.
شهدت زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ الرياض في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عقد ثلاث قمم متتالية: قمة مع السعودية، تلتها قمة مع دول مجلس التعاون الخليجي، وقمة أخيرة مع دول أعضاء جامعة الدول العربية.
وسنرى هنا أن زيارة الرئيس الصيني الرياض جمعت بعدين، «جيو - اقتصادي»، و«جيو ـ سياسي».
العلاقة الصينية - السعودية تمثل تتويجاً لعلاقات تاريخية قديمة امتدت لعقود عدة بين البلدين. وُقّعت في هذه الزيارة الأخيرة اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة، التي أكد عليها البلدان في البيان الختامي، الذي أشاد أيضاً بتوقيع خطة المواءمة بين «رؤية 2030» السعودية، ومبادرة «الحزام والطريق» الصينية.
وبالطبع، فإن الصين باعتبارها دولة صناعية متقدمة تستمد الجزء الأكبر من حاجتها من النفط من المملكة العربية السعودية، إذ بلغت شحنات النفط السعودي إليها في عام 2020 سنوياً 84 . 92 مليون طن أو نحو 1.69 مليون برميل يومياً بزيادة 1.9 في المائة سنوياً، مما جعل الصين أكبر مستورد للنفط من السعودية.
وبهذا الصدد أكد البيان المشترك في مجال الطاقة، أن تعزيز التعاون بينهما في هذا المجال يعد شراكة استراتيجية مهمة لما تتميز به المملكة من موارد نفطية وافرة، وما تتميَّز به الصين من سوق واسعة.
والفقرة التالية من البيان المشترك مهمة عند قراءتها، والتي أشار البيان إليها بالقول إن الصين الشعبية رحبت بدور المملكة «في دعم توازن واستقرار أسواق البترول العالمية، وباعتبارها (أي المملكة) مصدراً رئيسياً موثوقاً للبترول الخام المصدر إلى الصين»، وكلمة «موثوقاً» هنا تدل على المصداقية.
واتفق الجانبان على بحث فرص الاستثمارات المشتركة في قطاعات البتروكيماويات والطاقة الكهرضوئية وطاقة الرياح وغيرها من مصادر الطاقة المتجددة، وتعزيز التعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
وبالطبع، أكد البيان أهمية تعميق التعاون المشترك في مبادرة «الحزام والطريق»، وتعزيز موقع المملكة باعتبارها مركزاً إقليمياً للشركات الصينية لإنتاج وتصدير منتجات قطاع الطاقة، بالإضافة إلى الاستثمار المشترك في مشروعات الطاقة في دول المنطقة وفي أوروبا وأفريقيا.
وتضمن البيان، بدرجة من التفصيل، مختلف مجالات التعاون بين البلدين في الصحة، والثقافة والسياحة والرياضة... إلخ.
وفي الجانب الجيوسياسي والجيوستراتيجي اتفق الجانبان على تنسيق المواقف في المحافل الدولية مثل مجموعة العشرين، وصندوق النقد والبنك الدوليين، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وغيرها.
وفي الشأن السياسي أكد الجانبان دعمهما الكامل الجهود الرامية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية.
وأشاد الجانب الصيني بمبادرة المملكة لإنهاء الحرب في اليمن، وأكدا أهمية التزام الحوثيين بالهدنة، والتعاون مع المبعوث الأممي الخاص لليمن؛ للتوصل إلى حل سياسي دائم وشامل للأزمة اليمنية.
وفي فقرة أخرى من البيان، بخصوص الشأن الإيراني، اتفق الجانبان على ضرورة تعزيز التعاون المشترك لضمان سلمية برنامج إيران النووي، ودعا الجانبان إيران إلى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية... وأكدا احترام مبادئ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
والصين بحكم علاقاتها الجيدة مع إيران تستطيع أن تضغط عليها للكف عن التدخل في الشأن اليمني والمنطقة بأجمعها. هل بالإمكان تصور أن تخطو الصين هذه الخطوة، وتأخذ مبادرة في هذا الاتجاه، وخصوصاً أن إيران لم تعد تثق كثيراً بإدارة بايدن وبوعود الغرب في حل قضايا خلافية عدة بينهما؟
أزعم أن مفردات البيان السعودي - الصيني اختيرت بعناية فائقة وبشكل دقيق، بعيداً عن البيانات التقليدية بين الدول.
وفي الخلاصة، فإن دول الخليج العربية، وفي بيان حول العلاقات الصينية - العربية، أكدت تبعية تايوان للصين، وهذا دعم كبير من الدول العربية للصين في مطالبتها وتأكيدها أن تايوان تمثل جزءاً من الأراضي الصينية، وهو تعهد والتزام شخصي من قبل الزعيم الصيني باستعادة تايوان إلى الوطن الأم في فترة قيادته للصين. وبذلك تتبادل المصالح بين الصين والدول العربية.
وبذلك أرست الدبلوماسية السعودية منعطفاً تاريخياً في دعوة الزعيم الصيني إلى الرياض، بتصدرها المشهد السياسي ليس فقط في اتجاه الصين، بل أيضاً في اتجاه العالم العربي.
وأخيراً، وعلى ما أشرنا إليه في بداية المقال لأقوال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هل تسعى الدبلوماسية السعودية، بالتعاون مع بعض الدول العربية ودول عدم الانحياز، إلى أن تشكَّل طرفاً ثالثاً يكون وسيطاً بين القوتين المتنافستين (الصين والولايات المتحدة) لإحداث قطب ثالث يخلق توازناً آخر في العلاقات الدولية، لما في ذلك مصلحة للأمن والسلم الدوليين؟!