جمال زقوت
TT

حصاد الشوك لاستراتيجية الوهم

بات مؤكداً أن حكومة عصابة الأربعة بزعامة نتنياهو، بن غفير، سموتريتش، وآفي ماعوز ستتسلم مقود قيادة إسرائيل، وعلى رأس أولوياتها تكريس الاحتلال والضم والتوسع الاستيطاني، ومخططات الاقتلاع والتهجير، التي شكلت دوماً، وعلى مدار الحكومات المتعاقبة منذ النكبة، البنية التحتية والتربة الخصبة لتمدد وتنامي الفكر اليميني الديني المتطرف والكولونيالي العنصري، الذي يبلغ ذروته في هذه الحكومة، ومعه تتصاعد الفاشية التي لن يسلم منها المجتمع الإسرائيلي نفسه. هذا في وقت أن موقف الإدارة الأميركية لم يتجاوز الخطاب الحذر لوزير الخارجية أنتوني بلينكن أمام مؤتمر «J Street» السنوي في الرابع من الشهر الحالي، عندما أعلن «أن الولايات المتحدة سوف تتعامل مع السياسات الإسرائيلية، وليس مع الأفراد». فهذا الخطاب هو كمن يدفن رأسه في الرمال، ولا يمكن، بل، ولا يجب الرهان عليه إطلاقاً.
إن مشاريع القوانين التي مررها ائتلاف «نتنياهو - العصابة الكهانية» تُشكِّل الأساس القانوني الذي سيُمكِّن الحكومة القادمة من تنفيذ استراتيجيتها، حيث بموجبها سيُنصّب سموتريتش حاكماً فعلياً لدولة المستوطنين في الضفة الغربية من داخل وزارة الجيش، بهدف تنفيد مخططاته للاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، تمهيداً لضمها وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وعلى باقي الأراضي المسماة «ج»، بالإضافة لاستكمال تهويد القدس ومقدساتها، بما في ذلك السيطرة على الأقصى، كما سيقدم بموجب الاتفاق مقترح قانون ينتزع مرجعية ما يسمى حاخام الجيش من هيئة الأركان لتصبح ضمن صلاحية الحاخامية الكبرى في إسرائيل، وغيرها من التغييرات البنيوية في القضاء والتعليم، وصلاحيات وزير ما يسمى الأمن القومي، والتي ستشمل المسؤولية عن «قوات حرس الحدود» في الضفة الغربية، وتأسيس «الحرس الوطني» الذي أطلق عليه غانتس نفسه «جيش بن غفير الخاص»، وهو فعلياً ميليشيا جيش المستوطنين، بالإضافة لمضاعفة موازنات الاستيطان وبنيته التحتية التي تحول المدن الفلسطينية لكانتونات وجزر معزولة.
كما تنسف المزاعم إزاء أكذوبة الطابع «الديمقراطي» لإسرائيل، وتفتح أبواب الصراع نحو الدولة «العنصرية» الواحدة، الأمر الذي يثير مخاوف، ليست خالية من الطابع العنصري، لدى ما يسمى المعسكر «الليبرالي» من اليمين واليسار داخل إسرائيل وخارجها، على مستقبل الدولة والمجتمع و«الديمقراطية» في إسرائيل، فهذا التباكي الذي لمحت له «نيويورك تايمز» الأميركية يتجاهل بصورة فاضحة حقيقة أنه لا يمكن فصل ما يسمى الخطر على مستقبل «الديمقراطية المزعومة» ومن التطرف الديني عن مسألة الاحتلال والاستيطان والعنصرية، والإمعان في التنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
من الواضح تماماً أن تسليم مستقبل إسرائيل للمجموعة الكهانية التي من دونها لم يكن لنتنياهو أن يقطف ثمار انتصاره الانتخابي، والنجاة من محاكمته بقضايا الفساد، بتشريع قانون يمنحه الحصانة ما دام هو في هذا المنصب، الأمر الذي سيجعله طوال فترة حكمه أسيراً ملتزماً بتطبيق توجهات تلك المجموعة، بغض النظر عن مدى براعته أو حنكته بالمراوغة ومحاولات التذاكي للحصول على هوامش من المناورة تُمكنه من محاولة تجنب «التصادم» مع الإدارة الأميركية، أو اختبائه خلف ما يسمى حاجة إسرائيل لاستكمال استراتيجيته لتوسيع «الاتفاقات الإبراهيمية»، كما كشفت عن ذلك بعض تقارير الإعلام الإسرائيلي.
إن فكر نتنياهو اليميني العنصري الكولونيالي إزاء مستقبل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي هو فكر متأصل، ولا يختلف كثيراً عن فكر العصابة الكهانية، فهو عبر حكوماته المتعاقبة تمكن من دفن أوسلو، كما قام بإطلاق عنان الاستيطان بوتائر غير مسبوقة، وعزل القيادة الفلسطينية عن دائرة «الحوار السياسي»، وحاصرها في مربع ما أطلق عليه «السلام الاقتصادي»، وتركها تلهث خلف تسهيلات وامتيازات نخبتها المهيمنة على القرار الوطني مقابل حشرها في نفق التنسيق الأمني، الأمر الذي ولّد حالة غير مسبوقة في التاريخ لطبيعة الصراع بين القوة المحتلة والشعب الخاضع للاحتلال؛ بأن تكون وظيفته الأساسية مقتصرة على حماية محتليه الذين يرسخون يومياً عقيدتهم الصهيونية المتطرفة برفض الاعتراف بحق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، وتحويله إلى مجرد مجموعات سكانية وسوق استهلاكية تابعة للاقتصاد والعمالة الإسرائيليين.
إن سياسة حكومة نتنياهو القادمة كما يتضح من تسريب تفاهماته مع أركان ائتلافه ستتركز حول توفير الفرص والمناخ السياسي لتمرير استراتيجيته وتنفيذ مخططاته واتفاقاته الائتلافية إزاء مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وربما إظهاره كأنه حرب بين ميليشيات المستوطنين المسلحة التي عُهد لبن غفير تأسيسها، وبين تطلعات الفلسطينيين التي سيواصل محاولات تفريغها واستئصالها رويداً رويداً، وحصرها وفق منظوره في مربع «السلام الاقتصادي»، والتسليم بواقع الاحتلال، وحاجة الناس للعيش.
هذا سؤال برسم الإجابة تحديداً من قيادتنا، التي حتى اللحظة لا يوجد في جعبتها سوى استمرار الرهان على ما يسمى تدويل القضية، في وقت أن حكومة الاحتلال لا تلقي بالاً لمواقف المجتمع الدولي، مستثمرةً إلى أقصى حد ازدواجية معاييره وعزوفه عن اتخاذ أية مواقف عملية لردع سياساتها التوسعية التي تتناقض بصورة خطيرة مع قواعد القانون الدولي، كما تهدد المصالح الدولية في المنطقة.
من المستحيل معالجة أسباب التحولات في المجتمع الإسرائيلي، من دون التدقيق في أسباب حصاد الشوك الذي يتمثل بالحالة المتآكلة في النظام السياسي الفلسطيني وعزلته الشعبية، وكذلك انهيار دور الحركة الوطنية في براثن الانقسام وآثاره المدمرة، واستسلام كل منهما لاستراتيجية الوهم وقلة الحيلة، واللهاث وراء وهم التسوية، فقط لحماية مصالحها. فلا يمكن لأحد سواء كان على الصعيد الشعبي محلياً، أو حتى على الصعيدين الإقليمي والدولي… أن يأخذ المواقف القيادة الفلسطينية «على ضفتي الانقسام» على محمل الجد من دون مصارحتها لشعبنا وتحمل المسؤولية، لجهة إجراء مراجعة جادة وملموسة للأسباب التي أوصلت القضية الوطنية وأوصلت نفسها إلى ما هي عليه من وهن، وما ولده من تفسخ لأنظمة الحكم والإدارة، وأفرزه من فساد وفوضى، وتغييب الثقة الشعبية بهذه القيادة ونظامها السياسي بصورة غير مسبوقة. إن الخطوة الأولى التي يُمكن من خلالها مواجهة الخطر الداهم من حكومة نتنياهو على مستقبل القضية الوطنية، تبدأ بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية وبرنامجها الكفاحي على أساس استعادة الوحدة الوطنية، وإعادة بناء النظام السياسي للمؤسسات الوطنية الجامعة في إطار المنظمة والسلطة على أسس ديمقراطية تعددية عبر انتخابات عامة شاملة، وتصويب العلاقة بينهما، أي المنظمة والسلطة، عبر الربط الدقيق بين مهمات التحرر الوطني والبناء الديمقراطي للمؤسسات الحكومية لتصبح قادرة على احترام جميع قواعد وأسس المواطنة، وتوفير مقومات الصمود الشعبي في مواجهة مخططات الاحتلال الرامية لتصفية حقوق شعبنا. فشروط تغيير هذا الواقع واضحة ومعلومة، واستمرار المراوغة الفئوية والتلكؤ والإحجام عن التقدم نحو تنفيذها لن يؤدي إلا إلى الفوضى والانهيار اللذين سيطيحان بكل شيء.
لقد كُتب الكثير عما يجب القيام به لإنقاذ المصير الوطني لدرجة أصابت الناس بالملل لاقتصاره على مجرد اللغو، فلم يعد الوصف والتحليل مجدياً، كما لم يعد تكرار تحديد المطلوب القيام به لوحده مفيداً، كما أن تعزية الذات بوصف أزمة الفكر الصهيوني وتداعياتها على مستقبل إسرائيل من دون بلورة خطة وطنية لتعميقها من خلال تعزيز القدرة على الصمود، تصبح محاولة بائسة لتجميل كارثية الواقع.
المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق النخبة المدركة لمخاطر ما يجري هي مسؤولية مضاعفة، تستدعي مغادرة موقفها الانتظاري، والتقدم بخطة عملية بعيدة عن الشعاراتية وضيق الأفق، لتسرِّع في تحَوُّل التذمر الشعبي إلى حركة شعبية منظمة تستهدف إرغام المهيمنين على المشهد إلى الاستجابة لمتطلبات التغيير الديمقراطي، والقيام بما يمكن تسميته الإصلاح الانتقالي لكل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، من خلال حكومة وحدة وطنية انتقالية مخولة إجراء هذه الإصلاحات الجوهرية، وتعيد توحيد البلد تمهيداً لإجراء انتخابات عامة شاملة تفضي لإعادة بناء النظام السياسي التعددي... وإلا فلا خيار سوى مطالبتهم جميعاً بالرحيل، لاستعادة زمام المبادرة لمنع كارثة الانهيار وتجنيب البلد الاحتراب الداخلي، وكي يتولى الشعب حماية مستقبله وقضيته ومصيره الوطني في هذه البلاد.