في العشرين من يناير (كانون الثاني) الجاري، تنتهي حقبة الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن، وتبدأ حقبة الرئيس الأميركي الجمهوري دونالد ترمب. البيت الأبيض يستقبل وافده الجديد للمرة الثانية، والتوقيت الآن يختلف عن توقيت المرة الأولى، فالعالم يفقد بوصلة استقرار، وحروب هنا أو هناك، وصراعات على النفوذ، وسباقات لتصفية الحسابات، كما أن المسرح الدولي يشهد لكمات الكبار المتبادلة على نظام عالمي جديد لا يزال يبحث عن هويته.
الرئيس جو بايدن، ترك ميراثاً ثقيلاً، ومعقداً، والخروج منه يحتاج إلى إرادة حديدية. دونالد ترمب، يدرك مخاطر هذا الميراث، سواء على الصعيد الداخلي أم على الصعيد الدولي.
في مفكرة ترمب، دُوّنَت سطور بالحبر الأحمر، حول قضايا وملفات مشتعلة، فالداخل الأميركي ينتظر اقتصاداً عفياً وقوياً، وإيجاد وظائف جديدة، طبقاً لشعار «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى».
أما على الصعيد الدولي، فإن مفكرة ترمب تحمل عناوين ضاغطة وملحة، تتعلق بإيقاف الحروب الحالية، ومنع اتساعها، ورفض التدخل الأميركي في إشعال ثورات ملونة، أو إشاعة فوضى على المسرح الدولي، ويستعيض عن ذلك بقوة أميركا الاقتصادية، راغباً بأن تكون الدولة العظمى على المسرح الدولي دون منازع، ودون أن تكون إمبراطورية، وفي هذا الجانب تحمل مفكرته فرض جمارك وضرائب على السلع المستوردة من دول أخرى، حتى لو كانت هذه الدول حليفة وثيقة، مثل دول الاتحاد الأوروبي.
كل الرهانات الصعبة معلقة على لحظة جلوس ترمب داخل البيت الأبيض، كما أن خرائط العالم تنظر يمنياً ويساراً في حالة ترقب وحذر.
هل يستطيع ترمب تنفيذ ما جاء في مفكرته، بما يحقق ما نسميه «سلام ترمب»؟
الشاهد أن سلام ترمب المنتظر يعيدنا إلى مفهوم «السلام الروماني»، أو «باكسرومانا»، الذي أشاعته الإمبراطورية الرومانية، ما قبل وما بعد الميلاد، والذي استمر قروناً طويلة، أثناء هيمنة الرومان على مفاصل العالم القديم.
وكثيراً ما تحاول الولايات المتحدة أن ترث هذا «السلام»، لكنها لم تحققه على مستوى العالم قط، فالحروب في كل مكان، والفوضى، والقلاقل، والاضطرابات، تدور بتوقيت عصر القطب الواحد.
رسبت واشنطن في الاختبار الروماني، وضلت طريق السلام العالمي. ترمب صاحب عقلية رجل الأعمال البراغماتي، التقط منذ اللحظة الأولى أهمية استدعاء «السلام الروماني»، دون هيمنة عسكرية أو غزوات، أو احتلال أو فرض نفوذ بالقوة، إنما كان واضحاً في فلسفته، بأنه سيكون سلاماً اقتصادياً، بعيداً عن الفلسفة التي سادت أميركا طوال ثمانية عقود؛ أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ترمب يرى أن أميركا العظيمة تتمثل في دولة كبرى، تعيش بين المحيطين، لا تندفع إلى حروب أو غزوات إلى العالم القديم، مثلما حدث من قبل أوروبا طيلة قرون طويلة.
يقول ترمب إنه سيوقف الحروب جميعاً في أوكرانيا، والشرق الأوسط، وبعض التحليلات تشير إلى أنه سيسحب قواعده العسكرية من العراق وسوريا، لكن لا نعرف كيف سينهي مثل هذه الحروب، خصوصاً أن أميركا الباطنية لديها مصالح كبرى، ورغبة عميقة للوجود داخل الشرق الأوسط، وفي الجوار الروسي، وهو ما يتعارض مع رؤية ترمب، وفي الوقت ذاته كيف له أن يوقف الحرب في الأراضي الفلسطينية، من دون التوصل إلى حل دائم وعادل، لا سيما أنه لا يؤمن بحل الدولتين، ويرى أن الحل يكمن في «سلام اقتصادي»، وهو أمر يتعارض مع رؤية أميركا نفسها، ورؤية المجتمع الدولي والأمم المتحدة، فضلاً عن أن أوضاع الشرق الأوسط ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعدم حل القضية الفلسطينية.
إن ما ينتظره العالم من ترمب فور توليه مباشرة مهام الرئيس، هو إطفاء الحرائق التي أمسكت بتلابيب الخرائط، وباتت تلتهم بشكل حقيقي فكرة الاستقرار العالمي، وتهدد السلم والأمن الدوليين، وصارت تتسع بما يشكل خطراً كبيراً على مستقبل الشعوب.
إن الطبعة الثانية من الرئيس ترمب، ترغب في إثبات جدارتها في تنفيذ فلسفة مغايرة، ويبدو أن ترمب لديه ما يستند إليه في الداخل الأميركي، فهو يتحالف مع عباقرة وادي السيليكون، ومبدعي الذكاء الاصطناعي الكبار، ورجال الأعمال الجدد الذين يشجعون الاختراعات في الثورة الصناعية الرابعة.
وإذا قلنا إن ترمب نجح في فترته الأولى في أن يهيمن على الفضاء بأسلحة غير مسبوقة عالمياً، وهو الأمر الذي لم يتم تسليط الضوء عليه في فترته الأولى، نتيجة الصراع السياسي الداخلي الذي أحاط بوجوده في البيت الأبيض، فلا شك أنه في هذه المرة سيحرص جيداً على إظهار أدواته وإمكاناته السياسية والعسكرية والاقتصادية، وقد اختار فريقاً حكومياً من المؤمنين به وبأفكاره، على المستوى الداخلي والخارجي.
وإذا أخذنا في الاعتبار أنه يهيمن بحزبه الجمهوري على مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، والمحكمة العليا، وحكام الولايات، فإننا نستطيع أن نقول إن «سلام ترمب»، قابل للتحقيق، إلا إذا جرت أحداث أخرى مرتبة، قد تكون بمثابة فخ يعرقل تنفيذ ما ورد في مفكرته المكتوبة بحبر أحمر.