هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

ثورة إيران تذّكر بآخر أيام الشاه!

لم تترك إيران دولة صديقة لها. إنها تشتري صداقة الدول بالسلاح كما تفعل مع روسيا وأرمينيا، وتخلّف وراءها قتلى وضحايا، وهكذا نجح «حزب الله» في ألا يترك للبنان دولة صديقة تقف معه.
بالمناسبة، يجب تحية فريق كرة القدم الإيراني في مونديال قطر الذي تحدى ظلم نظامه وأبى أن ينشد النشيد الوطني للجمهورية الإسلامية، وقال أحد اللاعبين في الفريق: «نحن الشعب لسنا سعداء». وقال كابتن الفريق: «بسم الله (…)، أريد أن أقدم التعازي لجميع الأسر المكلومة في إيران. نريدهم أن يعرفوا أننا معهم وإلى جانبهم ونشاركهم آلامهم».
طبعاً هذه شجاعة، لكن تتزايد المخاوف من أن اللاعبين الإيرانيين قد يواجهون انتقاماً لعدم ترديدهم النشيد الوطني، وتهديداً بألا يكرروا مثل هذا الصمت.
‏الحديث الدائر في إيران الذي تناقله أكثر من مصدر من اتجاهات مختلفة، أن مجتبى حسيني خامنئي، نجل المرشد الأعلى علي خامنئي، قام بزيارة والده مصطحباً علي لاريجاني رئيس البرلمان والمرشح الرئاسي السابق، وشقيق علي لاريجاني صادق، المعروف باسم إميلي، وهو رئيس مصلحة تشخيص النظام. وبالرغم من اتفاق جميع المقربين من المرشد بعدم إقحامه بالموضوعات الحساسة التي تشكل إزعاجاً أو إرهاقاً جسدياً وفكرياً، فإن نجل المرشد خالف الاتفاق، بأسلوب ناعم وخالٍ من التفاصيل.
قال مجتبى إن الإخوة علي وإميلي يرغبان في التعبير عن قلقهما من أوضاع البلاد وأخذ النصيحة والتوجيه منك مباشرة. وقال إميلي هناك وضع غير سوي في البلاد أدى إلى انتفاضة شعبية يقودها شباب إيراني غاضب ويائس، ويتعاطف معهم كثير من الناس، وقد أدى تعامل الرئيس إبراهيم رئيسي القاسي مع الانتفاضة إلى أوضاع أشد سوءاً بعد إقحام الباسيج للبطش بالمنتفضين في الشوارع والأزقة، ما أدى إلى مزيد من العنف المضاد واتساع الانتفاضة لتشمل مناطق بعيدة عن العاصمة.
وأكمل إميلي لاريجاني أن هناك عمليات فرار وتخلف بين القوى الأمنية التي تبدي في كثير من الأحيان تعاطفاً مع المنتفضين. وقال علي لاريجاني إنه بحاجة إلى رأي وأمر من مولاه ومرشده وحكيمه لكيفية معالجة الأزمة. ردّ المرشد طريح الفراش كان مقتضباً؛ إذ قال إنه لا يجوز التفاوض مع المتمردين المضللين إلا بعد أن ينالوا عقابهم ويعلنوا توبتهم، أما هؤلاء الذين ينفذون تعليمات الأعداء فتجب معاقبتهم بالإعدام ليكونوا عبرة لغيرهم.
أحد مصادر الأخبار قال إن علي لاريجاني أخبره بعد زيارة المرشد أن ما يحصل شبيه بما أقدم عليه الشاه يوم أمر السافاك بقمع المتظاهرين، وكانت نهاية النظام، فالمنتفضون بغالبيتهم العظمى من داخل البيت الإيراني، وهم يريدون تغييراً سياسياً، وحرية، وديمقراطية؛ والأهم أنهم يريدون محاسبة الطغمة الحاكمة على ما آلت إليه أوضاع البلاد، التي أضحت أسوأ بكثير من تلك التي سادت في نظام الشاه، ولا يجوز أن يكون القمع بديلاً عن الحوار.
ما سُميت انتفاضة نساء إيران لم تتوقف منذ أن قتلت مهسا أميني على أيدي شرطة الأخلاق لظهور بعض خصلات شعرها من تحت الحجاب، وما تبعه من ادعاء الشرطة بأن موتها كان بسبب أزمة صحية مزمنة تعرضت لها أثناء التوقيف، في الوقت الذي انتشر على مواقع التواصل فيديو تم تصويره بهاتف أحد المارة يظهر تعنيف الشرطة لأميني أثناء توقيفها واقتيادها إلى السيارة التي نقلتها إلى مركز الشرطة.
أميني كانت الشرارة التي أشعلت نار جيل شاب رافض للمنظومة الآيديولوجية القائمة، هدفه ذو وجهان؛ تراكم كل المطالب السابقة التي عبّرت عنها 14 انتفاضة إيرانية؛ ووجه آخر يصرُّ على تغيير البنية السياسية الحاكمة؛ وإطلاق الحريات، وإنهاء النظام الأمني، وإسقاط الدكتاتورية، والمحاسبة. وفي مقابلة لأحد المنتفضين، الذي تم تمويهه صورةً وصوتاً على شاشة تلفزيون «آي تي في» البريطاني، قال إنه يريد «نظاماً لا يتدخل في شؤون الدول الأخرى ويدفع كل غالٍ ورخيص لتمويل الميليشيات الإرهابية… وتزويد روسيا بالمسيّرات، بينما شعبه يقتات من القمامة ويفتقد لأبسط مقومات الحياة».
وكانت قوات الباسيج عنيفة في عمليات القمع، وقد دعت منظمة «أنقذوا الأطفال» الأمم المتحدة إلى الإدانة الشديدة والرد على التقارير المتعلقة بقتل وتشويه واحتجاز مئات الأطفال في إيران وإلى إنشاء آلية تحقيق مستقلة. لكن اللافت أيضاً كان مقاومة المنتفضين بالسلاح الأبيض والحجارة والآلات الحادة وكذلك سلاح قوى الأمن المستسلمة والفارة. لقد سقط كثير من القتلى والجرحى من المدنيين وعدد من الباسيج، ومع هذا لم تتوقف المظاهرات وحملات القمع. وبالرغم من التعتيم الكامل بتوقف الإنترنت وقطع إرسال الهواتف، فإن مواقع تابعة للانتفاضة تنشر معلومات مترجمة عن الأحداث يتم نقلها في شبكات التواصل الاجتماعي. وقد أفادت عن أحداث الأسبوع الماضي كثيراً، منها...
- مظاهرة ليلية حاشدة في شارع سَرو بحي شَهْرزيبا في طهران، والهتافات كانت «هذا العام هو عام الدم سيسقط خامنئي»، «لا ملالي ولا حجاب يسقط المرشد ويسقط النظام»، «لا غزة ولا لبنان الأولى الأولى هي إيران».
- مظاهرة ليلية حاشدة في مدينة بيجار في كردستان إيران.
- آلاف الثوار من رجال ونساء مدينة بوكان يسيطرون على المدينة ويحتلون مراكز الباسيج أجمعها ويضرمون النيران فيها ويمهلون قوات القمع في مركز البلدية فترة زمنية محددة لتسليم أسلحتهم. وانطلقت في مدينة كرمان هتافات المحتجين: «آخرتك قريبة يا خامنئي»، و«النصر للثورة الايرانية». إن جميع المباني الحكومية ومقرات الشرطة و«الحرس الثوري» وثكنات الجيش أصبحت تحت سيطرة الثوار الأكراد في كردستان إيران.
- مقتل إسماعيل جراغي من الوحدات الخاصة الإيرانية في اشتباكات مع الثوار في مدينة أصفهان.
- مظاهرات في سنندج، ومقتل العقيد في الباسيج حسن يوسفي السبت، في اشتباكات مع الثوار وهم يسدون شوارع المدينة لمنع وصول قوات الباسيج.
ووفقاً لجميع البروتوكولات الدولية، فإن استخدام «غاز الأعصاب» في جافانرود هو مثال واضح على جريمة حرب. ويطالب الإيرانيون المجتمع الدولي باستخدام قانون المسؤولية عن الحماية.
وفي عسلوية دخل عمال المصفاة الحادية عشرة في مجمع جنوب فارس للغاز في إضراب. وباختصار، ستزيد إيران برنامج التخصيب بشكل كبير. فقد أعلنت أنها بدأت إنتاج 60 في المائة من اليورانيوم المخصب.
وعودة إلى خامنئي، فقد وصف المتظاهرين الأشداء بـ«أنهم ضعفاء وصغار بحيث لا يمكنهم إلحاق الضرر بالنظام»، في إشارة إلى المتظاهرين الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع منذ 16 سبتمبر (أيلول)، ومع هذا طالب بمعاقبة المتظاهرين «ومن حرضهم على النزول إلى الشوارع».
خامنئي رجل الدين البالغ من العمر 83 عاماً، والذي يقود الجمهورية الإسلامية منذ عام 1988، يزداد عزلة كل يوم. لقد فقد الاتصال بالواقع ولا يستطيع فهم مطالب المحتجين الشباب الذين كانوا يهتفون «الموت للديكتاتوريين»، وتتراوح أعمار معظم الذين تم اعتقالهم في الشهرين الماضيين بين 16 و22 عاماً، وليس لديهم أي اهتمام بما يعتقده خامنئي حول المثل الثورية ويحتقرون كل القيم التي يتظاهر «المرشد» وأعوانه بالدفاع عنها. الشبان الإيرانيون يهتفون «امرأة، حياة، حرية». 3 كلمات تعتبر نابية في عالم خامنئي.
هذا الأسبوع انضم كثير من الإيرانيين الأكبر سناً إلى الاحتجاجات. نظّم أصحاب المتاجر وأصحاب الأعمال والطلاب الجامعيون إضراباً لمدة 3 أيام لتذكر مئات من المدنيين، وحسب بعض التقديرات الآلاف الذين قتلوا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019.
تم خنق تلك الجولة من الاحتجاجات من خلال العنف المطلق؛ سفك الدماء الذي ترعاه الدولة استمر لفترة أطول من المظاهرات الشعبية نفسها، وبتكلفة أكبر . لكن بالنسبة إلى أولئك الذين ما زالوا يعملون تحت أي أوهام، فقد سقط الحجاب عن وجه الجمهورية الإسلامية إلى الأبد. كانت تجربة نوفمبر بمثابة تذكير قسري بأن الجمهورية الإسلامية غير قابلة للإصلاح، وهي قضية خاسرة. حتى هذه اللحظة المؤلمة يتوقف الإيرانيون لتكريم مواطنيهم الذين لن يتمكنوا من رؤية إيران حرة.
إن القيام بذلك، في ظل حكومة يعتمد بقاؤها الداخلي على النسيان، هو بحد ذاته تحدٍ.
أخطاء النظام الايراني فادحة، ليس في الداخل فقط، بل في التعامل مع الخارج أيضاً. فالتوسع الإقليمي عن طريق ميليشيات مذهبية إرهابية تشن حروباً وتقمع شعوباً أصبح مذهباً إيرانياً، كما أقحم نفسه في الحرب الدائرة في أوكرانيا، كما أرسل المسيّرات إلى روسيا وأصبح طرفاً في هذه الحرب العبثية إلى جانب روسيا وضد دول الغرب، بدلاً من الحياد الإيجابي المنتج، ولم يعد ممكناً التغاضي عن الجمهورية الإسلامية لكونها مربضاً للشر والإرهاب.
إعلام النظام الايراني يوجه الاتهامات «بأحداث الشغب» إلى الشياطين الأميركيين والإسرائيليين وحلفائهم، ولا سيما العرب الذين يتآمرون لإخضاع النظام إلى أوامرهم، ولكن النظام وإعلامه «الخشبي» لم يدرك أن هذا الخطاب لم يعد يجدي، والشعب الإيراني يعلم جيداً أن سبب التخلف هو النظام المتحجر نفسه وليس المؤامرة العالمية على الجمهورية، وهو يرى مثلاً حياً في كيفية التطور والتقدم في السعودية ودول الخليج، بينما بلاده التي لا تقل ثراء غارقة في التخلف والعتمة والجوع. بالتاكيد هناك دائماً أعداء متربصون بإيران لاقتناص الفرص عن طريق الانقسامات المجتمعية، إلا أن هؤلاء لن يتمكنوا من الحصول على قيد أنملة إذا كانت البلاد حصينة في الداخل أولاً، وعصية على الخارج بالحكمة والقوة.
من الأرجح أن يستمر النظام في قمعه دفاعاً عن وجوده أولاً وأخيراً. فإبراهيم رئيسي هو رئيس البلاد الذي يعطي الأوامر، ولكنه يأتمر من سيده خامنئي، وهو لم يكن في مركزه هذا لو لم يطع المرشد الذي هو الآمر الناهي، وإن كان طريح الفراش يصارع مرضاً عضالاً، وهذا ما تعلمه جيداً ولو متأخراً الأخوان لاريجاني بعد اجتماعهما المشؤوم مع مرشدهما الأعلى الذي صارت بلاده تسمى «قاتلة الأطفال»! الذين صاروا أكثر من 40.