خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

لو كان حسن النية شخصاً لحددت إقامته

سلموني رياضياً أو رياضية أضمن لكم أن يفوزا ببطولة العالم لألعاب القوى. سلموني فريقاً كروياً أفز لكم ببطولة الدوري في بلده. سلموني تلميذاً أضمن لكم أن يكون الأول على فصله. عندي شرط واحد بسيط. إخلاء الساحة من المنافسين. نريد شارعاً يشبه دروسنا الأولى في قيادة السيارات، أو سوقاً كالتي يصنعها أصحاب «النوايا الحسنة» في إدارة الاقتصاد.
لو كنت طبيب مجتمعات لشخصت سبب تراجع الكفاءة في أي مجتمع بـتمجيده لقيمة «النية الحسنة». قيمة سيئة الطالع في الشأن المهاري. إن بحثنا عن صفة جيدة في طبيب أو ميكانيكي فكانت الأولى على قائمته نيته الحسنة، فهذا معناه أن المهارات المطلوبة من واحد إلى عشرة مفقودة. والعبارة تبدو تبريراً لتقصير أكثر منها وعداً بإنجاز. تبدو استدراكاً لنقيصة أكثر منها تباهياً بكفاءة. لو التقطت أذنك نهاية حديث بين اثنين يقول أحدهما للآخر، «بس كانت نيته كويسة»، ستفهم فوراً أن من يتحدثان عنه ارتكب خطأ. ولو سألت شريك حياة عن نصفه الآخر، فقال أو قالت: «إنسان طيب»، لعلمت أن ثمة تعزية للنفس هنا.
إنما النية الحسنة وحدها لا تمنح أصحابها نفوذاً يكفل لهم تحقيق الشرط الآخر، إخلاء الساحة من المنافسين. ومن ثم، لو كنت طبيباً في أمراض الكفاءة الإدارية لاعتبرت المجتمع متأخر الحالة إن اجتمعت «النية الحسنة» مع «النفوذ». هذا خليط مدمر في إدارة أي مكان. يجعل المدير يرى قراراته كلها خضراء، ويضيق مساحة شكه في نجاعتها واستعداده لتعديلها، ويمنحه العزم على تنفيذها مهما استدعى الأمر من إجراءات جانبية. للأسف، في مجال تنافسي فإن أسهل الإجراءات الجانبية لضمان التفوق سيكون إخلاء الساحة من المنافسين، أو احتكارها.
تزداد المشكلة تعقيداً إن لم تتعلق بشخص واحد يمكن تغييره أو تعليمه. إن نشأتُ في ثقافة لا تتمحور حول النقد الإجرائي، بل تعمد إلى ربط النجاح والفشل، وإلى ربط اختلاف الآراء في مسائل السياسة والاقتصاد، بحسن الطوية أو سوئها، بالخير والشر، بالحق والباطل، فلا تلوموني إن نسبت أي تقصير إلى فساد نفس صاحبه. ولا تلوموني إن اعتقدت أن ما يتطلبه النجاح بسيط، حسن النية. ولا تلوموني إن اعتقدت من مكاني على المقهى أن في استطاعتي تغيير العالم. ولا تلوموني إن سمحت لي الظروف بالقيادة، ووجدت الأمر صعباً أن أعتقد أن الآخرين بلا شك السبب. ولا تلوموني إن ضيقت عليهم معتقِداً أنني يد الله في نصر «النية الطيبة» والإخلاص. ولا تلوموا من حولي إن وافقوني.
بهذا التتابع السابق تتحول مجتمعات «حُسن النية» إلى مجتمعات احتكارية. فيها فريق يفوز بكل البطولات. وفريق سنيد وظيفته الدخول والخروج من باب دوار. فيها نقابات فنية تزيح من يحقق جماهيرية، نقابات صحافية تحرم أصحاب المهارات الحديثة من المزايا وتحتكرها لأصحاب مهارات قديمة لم تعد مطلوبة في السوق. الرابط المشترك أن كلها تدخلات لتفعيل رغبة فئوية، أكثر منها لتوفير «ساحة تنافسية» ناجحة، تتطور فيها الأداءات، وتتحطم فيها الأرقام القياسية.
حسن النية عبارة شعبية مبسطة، ترتدي في المجال العام أثواباً متنوعة. «العدالة الاجتماعية» في الاقتصاد، «الحق» في السياسة، «الرسالة» في الفن. ولها كلمات سحرية تحت الطلب. كلما أعيتك الحيلة ضع كلمة «الغلابة» في جملة مفيدة. في النقاش حول العشوائية، حول الرثاثة، حول إدارة الاقتصاد وتشجيع التنافسية، حول الكفاءة الوظيفية والتحديث. وفي النقاش حول قوانين الاستثمار، والسياسات المالية والجمركية، ونوعية النشاطات الإنتاجية.
مما انتهت إليه الفقرة السابقة نصل إلى مبتدأ تغيير المجتمعات، من وجهة نظري. من أول تغيير حالتها المعيشية إلى تغيير أخلاقها، من تغيير مظهرها إلى تغيير جوهرها. يتغير كل هذا بتغير «النشاط الإنتاجي»، بشرط ألا يعتمد تغير النشاط الإنتاجي على رغبة احتكارية، تملك جهة تحديد أولوياته، وتملك المنافسة فيه بشروط تمييزية، بل يعتمد على فتح الأبواب للكيانات والأفراد لكي يخوضوا مغامراتهم بالطريقة التي تحلو لهم، على أن يتحملوا النتيجة؛ نجاحاً أو فشلاً. تماماً كما يحدث مع المواهب في أي مجال.
ونعم، لا بد إذن أن نبدأ من إدراك أن الكفاءة الاستثمارية موهبة، ومهارة، وتدريب، مثلها مثل ألعاب القوى. وأن صعود أصحابها شبيه بصعود المواهب في أي قطاع آخر. أفراد يملكون موهبة العين الاستثمارية التي ترى الحاجة إلى منتج معين عند فئة ما من المجتمع. قد تكون هذه الحاجة نعالاً بلاستيكية رخيصة، أو رحلات سياحية باذخة. ثم سوق تسمح لهؤلاء المستثمرين بتحويل الحاجة إلى طلب، أي توفيرها في إطار القدرة الشرائية للفئة المستهدفة؛ صغيرة كانت أم كبيرة. من هنا يحققون ربحاً، ويتوسعون، ويغري هذا آخرين بالانضمام إلى القطاع نفسه، حتى يصل السوق المستهدف إلى حالة تشبع. وفي هذه الأثناء تكتشف عيون استثمارية أخرى مجالات جديدة، وهكذا.
الدورة المشار إليها تخلق فرص عمل، وتطور بالمنافسة كفاءة الأيدي العاملة. بل تخلق -بدورة رأس المال- مزيداً من الفئات المستهلكة، وهذا يغري مزيداً من المستثمرين بالسوق، وينشط صناعات أخرى.
لا مكان في هذا المسار للسؤال عن حسن النية، أو سوئها. أو لتقسيم المستهلكين أخلاقياً حسب أوجه إنفاقهم. الفضيلة الكبرى للمستهلك هي مدى استعداده للإنفاق على المنتج، ومن ثم تنشيط القطاع. إدارة النشاطات الإنتاجية لمجتمع كفاءة مهارية، وثقافة، والأهم من ذلك كله تجربة. تجربة مرت بها مجتمعات بالفعل، لا داعي لإعادة اختراع العجلة. والحذر كل الحذر من وضع عصا في عجلة رأس المال، تحت أي شعار أخلاقي؛ إذ ليس لذلك إلا نتيجة واحدة، تعطلها.
السوق الحرة فاتحة الكتاب الاقتصادي. قولوا آمين وبعدها نتكلم.