حنا صالح
كاتب لبناني
TT

عصام خليفة للرئاسة اللبنانية مُخاطرة إيجابية!

عندما تنعقد الجلسة الخامسة لانتخاب رئيس للجمهورية، فإن المتوقع تكرار سيناريو تطيير النصاب من جانب فريق السلطة الذي يقوده «حزب الله»! لأنه وفق رئيس البرلمان نبيه بري «لا جدوى من انعقاد المزيد من الجلسات وسط الانسداد في التوافق»! لذا؛ استسهلوا فرض الشغور الرئاسي، ليتكرر ما حدث في نهاية ولاية إميل لحود، وبعده مع ميشال سليمان! ولو شئنا التدقيق أكثر، فإن الرئاسة اللبنانية دخلت في موتٍ سريري منذ قُتِلَ رئيس الطائف رينيه معوض، لكنه بلغ الذروة في العهد الحالي، عندما بات زعيم «حزب الله» الحاكم الفعلي، ولم يبقَ للرئيس «المنتخب» سوى أدوارٍ بروتوكولية كتوزيع الأوسمة على المقربين والمحظيين من الحاشية!
الشغور هو القاعدة منذ نهاية عهد لحود. والشغور ما كان ليكون لو أن البلد يُحكم بالدستور ويخضع انتظام عمل المؤسسات للقوانين. فتعليق الدستور بدأ مع انقلاب النظام السوري على الطائف بداية التسعينات، فكانت «ترويكا الرئاسات» بديلاً للمؤسسات الدستورية، وحل «نظام المحاصصة الطائفي» مكان الدستور؛ ما سهّل التسلط السوري وعجّل بروز سياسيين فاسدين تابعين للخارج. وساد تبادل المنافع مع جيش الاحتلال، وتعمقت الظاهرة مع انتقال الهيمنة الخارجية إلى طهران من خلال دويلة «حزب الله»، وكُسِرت كل المحرمات: في العالم عصابات تنهب المصارف وعندنا نهب أصحاب مصارف ودائع الناس!
حتى اليوم الهزل وعدم الجدية عنوان جلسات الانتخاب كنتيجة لبدعة طلع بها بري ولم تواجه، تقوم على فتوى وجوب نصاب الثلثين في كل الجلسات، فتوى متصادمة مع المنطق وفيها افتئات على الدستور، الذي حصر نصاب الثلثين في الجلسة الأولى وحدها. لكنها تشكل غطاءً مخططاً ممنهجاً لفرض الشغور، كممر لتقزيم الجمهورية، والترويج الواقعي لفكرة الاستغناء عن وجود رئيس للجمهورية! وبالتزامن تقدم التركيز على المرجعية التي ستتسلم صلاحيات الرئاسة: مجلس الوزراء مجتمعاً! وهذا بالضبط ما يحوز الأولوية في بيروت، فلبنان الذي عاش سنوات من دون رئيس، عرف في العهد الحالي فراغاً حكومياً مديداً مع تجاوز أيام الفراغ 960 يوماً (48 في المائة من إجمالي الولاية)، لتكون الحصيلة كارثية على أداء المؤسسات وتأمين مصالح المواطنين، فقاربت أضرار هذا الانهيار المؤسساتي حجم الانهيارات المالية والاقتصادية!
الأكيد أن ما يريده «حزب الله» وفريقه تحول الرئاسة إلى حالة كاريكاتورية تشبه رئاسة جمهورية الملالي. رئاسة شكلية مجرد واجهة، في حين القرار الفعلي بين يدي حامل الأختام، وكيل «الولي الفقيه»، الذي يرعى قيام مؤسسات حزبية مذهبية موازية للمؤسسات الرسمية. تفاقم هذا الوضع منذ «التسوية» الرئاسية المشينة التي قامت على تسليم «حزب الله» حق الإمساك بخناق البلد وأهله... ما أفقد لبنان الرئيس كما الجمهورية!
هناك متغير كبير حدث في «17 تشرين» 2019، ما زالت مفاعيله مستمرة لأنه حدث ثوري عميق، كشف عن وعي مجتمعي تنامى على ضفاف الانقسام الطائفي المشغول الذي سلط الفاسدين على اللبنانيين. وعلى العموم لم يمنع هذا «الانقسام» الشكلي، «تحالف» طرفي النظام، فكلاهما استند إلى المحتل حيناً والبندقية اللاشرعية حيناً آخر، فتجبرا بعدما رسخت لديهما القناعة باستحالة الحساب. جاءت «ثورة تشرين» لتحدث المفاجأة، مع توجه الناس إلى الطبقة السياسية بالقول: لنا عليكم حقوق وستدفعونها! ومرة ثانية كان الناس على الموعد في الانتخابات، وقد أدى التصويت العقابي إلى دخول البرلمان كتلة من 13 نائباً تعكس النسيج التشريني، فتبدلت كل التركيبة النيابية ليخسر «حزب الله» أكثريته ولم يمنح تقدم مناوئيه أكثرية مطلقة.
بمعزل عن التسرع و«فاولات» سياسية، يُسجل لنواب من الثورة ترشيح الدكتور عصام خليفة للرئاسة. شخصية سيادية مدافعة عن قدسية الحدود، واجهت صفقة التخلي عن السيادة والثروة للعدو مقابل تجديد تسلط الفاسدين، وتمويل الدويلة. يعدُّ أبرز مؤرخي تاريخ لبنان، ومن رموز الدفاع عن التعليم والجامعة الوطنية، متمسك بالعدالة واستقلالية القضاء والمحاسبة بشفافية، كما أنه من رموز معارك الدفاع عن الحرية. أحدث ترشيحه إرباكاً للآخرين، رغم نيله 10 أصواتٍ فقط، لأنه بدا عقبة بوجه مخطط تمرير الوقت لإنضاج «تسوية»؛ إذ ليس سراً أن رئيس البرلمان يستعد، بالتوافق مع «حزب الله»، لدعوة رؤساء الكتل النيابية من أجل «توافق» على رئيس لإدارة الأزمة، يعمل تحت عباءة «الحزب» فيكمل النهج المدمر للعهد العوني!
هنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أنه إثر انتهاء الجلسة الانتخابية الثالثة، أبلغ جنبلاط موفد الدكتور سمير جعجع أنه سيلبي دعوة بري الآتية لـ«توافق» حول مرشح بديل عن المرشح ميشال معوض، الذي يمثل معارضة موالاة النظام. وإثر الجلسة الرابعة أعلن جعجع «إذا أكثرية الفرقاء اتفقوا على العماد جوزيف عون فإن هذا الأمر نتوقف عنده لأنه في عمله أثبت جدارته ولا أجد أي شيء سيئ يحول دون تأييدنا له»! فيكون بذلك اكتمل التخلي عن معوض مرشح معارضة موالاة النظام الذي ما طُرح اسمه إلا للمناورة!
إن مشاكل اللبنانيين وهمومهم أعمق من كلِّ ما يدور على مسرح ساحة النجمة النيابي. ويعرف المواطنون من التجربة، أنه ولا مرة كانت الانتخابات الرئاسية مدخلاً لحل الأزمات التي تراكمت من عهد إلى آخر، وتفجرت في العهد الذي أمعن بإذلال اللبنانيين. وعندما أدرك نواب من الثورة أن الهزل في جلسات الانتخاب الرئاسية مرده الإصرار على تجريد اللعبة الديمقراطية من مضمونها، وتكريس قاعدة تحدد دور البرلمان بالبصم على مرشح «توافق» أياً كان اسمه، يتم تبنيه بالتوافق مع الخارج. جرى ذلك قبلاً في الدوحة عندما تمت تسمية سليمان، وتكرر مع عون بعد «تسوية» 2016! فكانت خطوة ترشيح خليفة بمثابة «مخاطرة إيجابية» باسم «17 تشرين».
من شأن هذا الترشيح أن يعيد الاعتبار لدور البرلمان، ويمثل رفضاً وطنياً لتسويات متسلطين فاسدين مع الخارج تزعم التوافق الشامل. هنا لا بد من التذكير أنه في زمن الكبار حدث توافق أميركي - مصري على الإتيان بفؤاد شهاب رئيساً إثر أحداث 1958، وبدا هناك إجماع. لكن السياسي ريمون إده الملقب ضمير لبنان، ترشح دفاعاً عن المبدأ الديمقراطي ودور البرلمان، ولم ينجح شهاب بالرئاسة إلا في دورة الاقتراع الثانية. هنا أهمية ترشيح خليفة وما يمكن أن يبنى عليه لإعادة استنهاض القوى الشعبية على طريق بناء «الكتلة التاريخية» البديل السياسي لكل منظومة النترات. والأكيد، أن الترشيح أسقط محاولات ابتلاع نواب الثورة أو إفشالهم، وهم يتعرضون لتهجمات فجة كأن الـ13 تسببوا في الانهيارات فيما الآخرون الـ115 نائباً يرشحون زيتاً! وهم أصحاب اختصاص في إفقاد النصاب وإنتاج المحاصصات في الغرف المغلقة!
إنها «مخاطرة إيجابية» أن يُقدّم للبنانيين شخص يحمل أحلام الناس ويعبر عن تطلعاتهم، رجل دولة وليس رجل سلطة، مدركٌ أولوية السعي لاستعادة الجمهورية، ويعي أن تحقيق ذلك يكون بكسر الاختلال بميزان القوى الوطني، ووجوده في المعركة رسالة مفادها أن لبنان ليس مجرد مساحة جغرافية تتحكم فيها قوى خارجية أولها طهران، وأن المناخ التشريني، رغم العراقيل عصي على الكسر ويعوّل عليه في رسم مآلات مستقبل لبنان.