عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

مطالبة شعبية بعودة بوريس جونسون

«احذر ما تتمناه... فقد تتحقق أمنيتك»، حكمة ذكرت أولاً في حكاية «العجوز والموت» من Aesop’s Fables شفهيات الراوي أيسوب الإغريقي (620 - 564 قبل الميلاد)، 725 حكاية، متضمنة حوارات على ألسنة حيوانات وحشرات وطيور، كحِكم أخلاقية للبشر (قبل «كليلة ودمنة» بأكثر من ألف ومائة عام).
كهل تعب من جمع الحطب، فألقى بحمولته ساخطاً: «أنا عجوز سئمت من الحياة، فخلصوني منها». فظهر له الموت بمنجله الأسطوري لتحقيق الأمنية، فصاح الرجل: «ساعدني في جمع أعواد الحطب التي سقطت مني».
كررت قول «احذر ما تتمناه....» في تعليقي في «بي بي سي»، على استقالة رئيسة الوزراء إليزابيث تراس، بعد ظهر الخميس، استجابة لتزايد عدد نواب حزبها (المحافظ)، المعترضين على استمرارها في الزعامة (راجع مقالنا الأسبوع الماضي).
واسترجعت قول الأديب والفيلسوف الأميركي (الإسباني المولد) جورج دي سانتايانا (1863- 1952): «من لا يتذكرون أحداث الماضي، تصيبهم لعنة أن يعيشوها مرة أخرى» من مجلده الضخم «عصر (أو حياة) العقل» (خمسة أجزاء 1905 - 1906).
إذ يبدو أن «المحافظين»، الحزب الأشهر، والذي يعتبر الأكثر نجاحاً الذي حكم أكبر عدد من المرات في الديمقراطيات البرلمانية، لم يتعلم درس التاريخ، ولا يستوعب الحذر في التمنيات.
من التاريخ، الناخب يرفض الأحزاب التي تمزقها خلافات داخلية، وكان الحزب العريق ارتكب خطأ فادحاً بقبول نقل حي في التلفزيون أثناء الصيف لمناظرات المرشحين المتنافسين على الزعامة السيدة تراس، ووزير المالية السابق ريشي سوناك، في دوائر الحزب.
فقد ركز كلاهما على سلبيات الطرف الآخر وكعب أخيله، الذي يتلقى السهم المميت، مما أظهر الحزب منقسماً أمام عموم الناخبين الذين لا يصوتون في منافسة الزعامة.
الدرس الآخر أن عدم تماسك الأعصاب، واستبدال قبطان السفينة الماهر (بدلاً من مساعدته) عند مواجهة العاصفة، لا يضمن دائماً نجاة السفينة.
ففي 1990، أُجبرت رئيسة الوزراء وقتها الليدي مارغريت ثاتشر (1925- 2013 ) على الاستقالة بضغوط الوزراء وكبار المحافظين، خاصة التيار الموالي لتحول السوق الأوروبية المشتركة إلى الاتحاد الأوروبي، وكانت السيدة الحديدية معارضة لها. وبريطانيا وقَّعت معاهدة «ماستريخت» في1992 فقط عندما تولى جون ميجور زعامة الحزب، وبالتالي رئاسة الوزراء (1990 - 1997)، وواجه متاعب في قبول البرلمان لها.
خروج ثاتشر افقد المحافظين أهم رصيد انتخابي لهم منذ 1955 وقت انتهاء زعامة السير ونستون تشرشل (1874- 1965)، ولولا الدور المحوري لبريطانيا في حرب الخليج الأولى (تحرير الكويت) لخسر المحافظون الانتخابات، فتاريخياً يدعم الناخبون حكومتهم وقت الحروب. وبلا زعامة ثاتشر، خسر المحافظون 178 مقعداً في انتخابات 1997 عندما اكتسح «العمال» بقيادة توني بلير (1994- 200) الأصوات فائزين بـ145 مقعداً إضافياً (418 للعمال من إجمالي 651) بعد توحيده صفوف حزب العمال، والتخلص من التيار الاشتراكي.
تهور المحافظون، بالتخلص من قبطان السفينة بوريس جونسون (راجع مقالنا «أسطورة القديس جورج وبوريس جونسون» العدد 15930)، بدلاً من التحلي ببرودة الأعصاب الإنجليزية، والتمسك بجونسون، كرصيد انتخابي، وانتظار تحقيق برلماني لمعاقبته على مخالفته للوائح الحظر الصحي بإقامة موظفي مكتبه للحفلات.
فبوريس لم يستقل لسوء الأداء السياسي أو تدهور الاقتصاد الذي كان أداؤه الأفضل في أوروبا، بل استقال نتيجة ضغوط نواب الحزب، استجابة لحملة وسائل صناعة الرأي الصحافية، ومعظمها تدعمها وتروجها المؤسسات والتيارات التي تريد إعادة بريطانيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي.
أمنية المحافظين، بزعيمة (شبه) حديدية جديدة - بدأت بتقليد الليدي ثاتشر مظهراً، وإصراراً على سياستها بجذب الاستثمارات، على الرغم من افتقارها لباقة وسرعة بديهة وقدرة ثاتشر على التواصل مع الصحافة والرأي العام - تحولت إلى كارثة في شعبيتهم (أقل من حزب العمال المعارض بأكثر من ثلاثين في المائة في استطلاعات الرأي)، وفي رد فعل البورصات وأسواق المال للميزانية التي أعلنتها حكومة تراس.
وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لم يعلن كبار ساسة المحافظين عن نيتهم في الترشح لزعامة الحزب - حسب اللوائح المعدلة التي أعلنها السير غراهام برايدي رئيس لجنة 1922، الممثلة لنواب الحزب (بالحصول على مائة صوت كحد أدنى من 357 نائباً محافظاً قبل الثانية من ظهر غد الاثنين) - باستثناء زعيمة الأغلبية ورئيسة المجلس الاستشاري الملكي بينولوبي موردانت.
ومع ذلك، فإن استطلاعاتنا كصحافيين بين نواب المحافظين تضعها في المركز الثالث (كحالها في تصويت النواب على الزعامة السابقة في مطلع الصيف)، وراء مرشحيْن لم يعلنا نيتهما الترشح بعد: وزير المالية السابق سوناك الذي تقدم على تراس، لكن فضلها أعضاء الحزب في الدوائر، والثاني، وهي المفاجأة، جونسون نفسه الذي يطالب الناس العاديون (الذين تتجاهلهم الصحافة القومية) بعودته، وهي أيضاً أرقام وكالات المراهنات العامة في أنحاء البلاد.
نتائج تصويت نواب البرلمان ستعلن في التاسعة مساء الغد بتوقيت لندن. أحزاب المعارضة، وأكبرها «العمال» بزعامة السير كيير ستارمر الذي يتفوق في استطلاعات الرأي، تدعو إلى انتخابات برلمانية عامة فورية، بحجة أن عودة جونسون ستكون بمثابة ازدراء لجدية اللوائح البرلمانية وهيبة القانون، أو في حال اختيار زعيم ثالث منذ انتخابات 2019 يعني أنه جاء بلا تفويض نيابي من الناخب.
دستورياً لا يمكن إجراء انتخابات قبل نهاية 2024 إلا بتصويت ثلثي النواب، أي 434 نائباً، بينما للحكومة وحدها 357 مقعداً، والمعارضة تحتاج إلى 141 من أصوات نواب المحافظين للتصويت معها لتحل البرلمان، وليس من المعقول أن يصوت نائب لإجراء انتخابات تشير استطلاعات الرأي إلى خسارتها.
الحل الثاني، أن تتقدم المعارضة بعريضة يوقعها النواب إلى الملك لتعليق المجلس والدعوة إلى انتخابات «لظروف استثنائية طارئة» ومن شبه المستحيل إقناع القصر بذلك.
أي حكومة جديدة ستواجه المشاكل نفسها، اقتصادية ومالية وفي الطاقة، والتي قللت من شعبية المحافظين، وخارج سيطرة أي رئيس وزارة جديد؛ لأنها مشاكل عالمية وليست محلية، بجانب أن الحملات الانتخابات بطبيعتها، تستغرق شهرين أو أكثر من المواجهة التخاصمية الطابع التي تؤدي لانقسامات سياسية في وقت تحتاج فيه الأمة البريطانية إلى الوحدة والتضامن.