بول كروغمان
اقتصادي اميركي
TT

ماذا يحدث حقاً للتضخم؟

جاءت الأخبار الاقتصادية الكبرى لهذا الأسبوع، بطبيعة الحال، متمثلة في التقرير، الذي صدر يوم الخميس الماضي، عن أسعار المستهلك في الولايات المتحدة. وما من سبيل للالتفاف على حقيقة ما ورد في هذا التقرير: لقد كان قبيحاً. ورغم الجلبة التي أثارها مراقبون من القطاع الخاص حول تداعيات التضخم، لم تكن هناك أي مؤشرات على هذا الأمر في الأرقام الرسمية. من جهتها، استجابت البورصة لهذا التقرير القبيح باكتساب 800 نقطة. وليس لدي أي تفسير للسبب وراء ذلك.
إلا أن التساؤل هنا: هل تخبرنا الإحصاءات الرسمية بما نريد معرفته؟ ثمة إغراء كبير يدفعنا نحو «فك اشتباك» الأرقام، باستثناء الأشياء التي لا نحبها. من الواضح أن هذا سبيل رديء للمضي قدماً. وما أود طرحه، بدلاً عن ذلك، أن المقاييس الرسمية للتضخم، ورغم أنها مصممة بما يلائم الغرض الأصلي منها، قياس تكلفة المعيشة، فإنها غير مناسبة للرد على التساؤل المثار حالياً حول مقدار الزيادة التي يحتاج بنك الاحتياطي الفيدرالي لإقرارها بمعدلات الفائدة.
من جانبهم، يعتقد معظم الاقتصاديين هنا، لكن ليس جميعهم، بوجود علاقة بين الركود الاقتصادي ومعدل التضخم. بعبارة أخرى، كلما كان الاقتصاد أكثر سخونة، ارتفع معدل التضخم، مع افتراض تساوي العناصر الأخرى.
وأتفق من جهتي مع الحكمة التقليدية التي يقوم عليها هذا الاعتقاد، وثمة شكوك تراودني بخصوص مسألة ما إذا كان من الأفضل قياس الركود من خلال معدل البطالة، أو نسبة الوظائف الشاغرة إلى البطالة أو أي شيء آخر. في الوقت ذاته، فإنني على ثقة من أن الاقتصاد يعايش حالة سخونة مفرطة بالفعل، لذلك كان الاحتياطي الفيدرالي محقاً في رفع أسعار الفائدة ـ وإن كنت أقل ثقة فيما يتعلق بما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي بحاجة إلى الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، بالنظر إلى أن الكثير من تأثير الزيادات السابقة في أسعار الفائدة لم نشعر به بعد.
التساؤل هنا: ما السبيل الأمثل نحو تقييم النقطة التي نقف عندها اليوم؟
أما السبب وراء تأثير مؤشر أسعار المستهلك على التوقعات المرتبطة بالسياسات، فيكمن في الافتراض أنه مؤشر على مدى سخونة الاقتصاد على أرض الواقع. إلا أننا أدركنا منذ فترة طويلة أن أرقام التضخم الخام ليست مناسبة لخدمة هذا الغرض. على سبيل المثال: التضخم الناجم عن أمور، مثل الاجتياح الروسي لأوكرانيا، لا يكشف لنا معلومات عن الركود في الاقتصاد الأميركي. وعليه، اعتمد الاحتياطي الفيدرالي منذ فترة طويلة على التضخم «الأساسي»، الذي يستبعد تقلب أسعار المواد الغذائية والطاقة. وفي الآونة الأخيرة، تحول اهتمام العديد من الاقتصاديين نحو مقاييس بديلة، مثل التضخم الوسيط، الذي يستبعد تحركات الأسعار المتطرفة من أي نوع.
في الماضي، نجحت هذه المقاييس بشكل جيد. وساعد التركيز على التضخم الأساسي الاحتياطي الفيدرالي على الحفاظ على الهدوء والمعاونة في المضي قدماً عام 2008 ومرة أخرى في عامي 2010 و2011 عندما أدى ارتفاع أسعار البنزين إلى حدوث ارتفاعات مؤقتة في معدل التضخم الإجمالي.
ومع ذلك، في هذه المرحلة، ثمة سبب وجيه للاعتقاد بأن مقاييس مثل التضخم الأساسي والوسيط تنظر إلى الاقتصاد من خلال مرآة رؤية خلفية متصدعة، وتوفر القليل من التوجيه المفيد للسياسات المستقبلية.
وترتبط المشكلة الكبرى بتكاليف السكن. ويتمثل المكونان الرئيسيان لمؤشر أسعار المستهلك في الإيجارات و«الإيجار المكافئ للمالكين»، وهو عبارة عن افتراض لما سيدفعه مالكو المنازل إذا كانوا مستأجرين، ويعتمد إلى حد كبير على إيجارات السوق. يشكل المأوى، الذي يتكون أساساً من هذين المكونين، ما يصل إلى 32 في المائة من مؤشر أسعار المستهلك، وقرابة 40 في المائة من التضخم الأساسي. كما أن ذلك أكثر هيمنة في التضخم الوسيط. ومع أن المأوى ليس دوماً لوسيطٍ، فإنه يشكل جزءاً كبيراً من أسعار المستهلك بحيث يصعب على معدل التضخم الوسيط أن يختلف كثيراً عن تضخم المأوى. في الواقع، تتبَّع التضخمُ الوسيط عن قرب تضخمَ المأوى خلال السنوات الأخيرة.
والآن، لماذا يعد هذا مشكلة؟ لأن مؤشر أسعار المستهلك الذي يهدف إلى قياس تكلفة المعيشة، ينظر إلى متوسط المبلغ الذي يدفعه المستأجرون. إلا أن معظم المستأجرين لديهم عقود إيجار، ما يعني أن الإيجارات التي يدفعونها تعكس إلى حد كبير حالة سوق الإيجارات في وقت ما في الماضي. في الواقع، يقدر تقرير جديد مهم صادر عن مكتب إحصاءات العمل أن مقياس الإيجار الرسمي يتأخر عن الإيجارات في السوق بنحو عام.
ويمثل هذا، للأسف، مشكلة كبيرة، لأننا مررنا للتو بطفرة ملحمية في أسعار الإيجارات، ربما مدفوعة بارتفاع معدلات العمل من المنزل وتداعيات أخرى للجائحة. وتشير دلائل أولية إلى أن هذه الموجة في ذروتها، إلا أن مؤشر أسعار المستهلك تخلف عن الركب.
ويشير الاحتمال الأكبر إلى استمرار ارتفاع مقاييس التضخم التقليدية لدينا، التضخم الأساسي والتضخم الوسيط وما إلى ذلك، بسرعة لفترة من الوقت أثناء محاولتها اللحاق بالركب. ومن وجهة نظر المستهلكين، سيمثل هذا زيادة حقيقية في تكلفة المعيشة. ولكن إذا كنت تحاول تقييم وضع الاقتصاد المحموم، فإن المقاييس القياسية ستخبرك بحالة الاقتصاد قبل عام، وليس حالته اليوم.
لذلك نحتاج حقاً إلى مقاييس الأسعار التي تعطينا صورة أكثر حداثة عن حالة الاقتصاد. لسوء الحظ، فإن تكاليف الإيجار ليست المكان الوحيد الذي يبدو أن آثار الوباء تؤدي فيه إلى نتائج غريبة.

* خدمة «نيويورك تايمز»