يواجه العالم اليوم تحديات هائلة تفرضها التهديدات الصحية التي قد تؤثر على الإنسان والحيوان والبيئة. وفي الماضي، كان الخبراء وراسمو السياسات يعالجون هذه التهديدات بعضها بمعزلٍ عن بعضٍ، حسب مجال تخصصهم؛ لكننا اليوم ندرك أن صحة الإنسان والحيوان والبيئة يرتبط كلٌّ منها بالآخر في أغلب الأوقات، ومن ثَم، يجب تناولها بطريقة جماعية ومتسقة. وتمثِّل الأمراض الحيوانية المصدر 75 في المائة من الأمراض المُعدية الجديدة والمُستجدة التي تصيب الإنسان، وتشكِّل تهديداً كبيراً ومتنامياً يُحدِق بالصحة العامة، كما يتضح من جائحة «كوفيد-19» المستمرة، وفاشيات مرض فيروس «الإيبولا» في أفريقيا.
ويُسلِّط ظهور فيروس «كورونا» المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، الضوء على المخاطر التي يواجهها إقليم شرق المتوسط، من جراء الأمراض الحيوانية المصدر المُعدية المستجدة. وثمة تهديدات محتملة أيضاً تنجم عن الفاشيات، ومنها الفاشية التي تسبب فيها «جدري القردة» حاليّاً.
وما برحت فاشيات الأمراض الحيوانية المصدر تُلحِق بالإقليم خسائر فادحة. فعلى سبيل المثال، كانت «حمى الضنك» تمثِّل لعقود خطراً متنامياً، وقد تكون قاتلة فتُودي بحياة ما يصل إلى 20 في المائة من المصابين بـ«حمى الضنك» الوخيمة. ولا تزال «حمى القرم - الكونغو النزفية» تمثل تهديداً كبيراً على الصحة العامة، بسبب إمكانية تحولها إلى وباء، وارتفاع معدل وفيات الحالات المصابة بها. وقد أُبلغ عن حالات إصابة متفرقة وفاشيات لـ«حُمى القرم - الكونغو النزفية» بين البشر في عدد من البلدان، وهو ما أثقل كاهل الاقتصادات والأمن الغذائي.
ويستحيل القضاء على فيروسات الإنفلونزا، مع وجود مستودع صامت واسع النطاق في الطيور المائية. وسيستمر حدوث العدوى بـ«الإنفلونزا» الحيوانية المصدر في صفوف البشر، وقد يتسبب ظهور سلالة مختلفة منها في حدوث جائحة «الإنفلونزا».
أضف إلى ذلك أن داء «البروسيلات» البشري (الحُمى المالطية التي تصيب الإنسان) يتوطن أيضاً في معظم بلدان الإقليم، مع ما يترتب على ذلك من آثار وخيمة على الصحة العامة. ويكتسب تنفيذ نهج الصحة الواحدة أهمية خاصة في مجال الوقاية من الأمراض الحيوانية المصدر وتدبيرها علاجيّاً. ومن المهم فَهم الأهداف من منظور النظام بأكمله، من أجل تحديد الأرضية المشتركة التي تنطلق منها مختلف القطاعات صوْبَ التعاون، وتنفيذ تدخلات فعالة ومستدامة تراعي الظروف المحلية.
ويتجلى أيضاً الترابط بين صحة الإنسان وصحة الحيوان وصحة البيئة في أمراض المناطق المدارية المُهمَلة، مثل داء «الليشمانيات»، والأمراض المنقولة عن طريق النواقل مثل «الملاريا»، ومقاومة مضادات الميكروبات، وسلامة الأغذية، وعدم الحصول على المياه النظيفة والأغذية المغذية. وكلها تهديدات رئيسية تُحدِق بالصحة العامة، وما زالت تؤثر على السكان -لا سيما الفئات الأضعف- عالميّاً، وفي الإقليم. وترتبط بهذه التهديدات عوامل خطر تتمثل في السفر والهجرة، والعولمة، والتحضُّر، والممارسات الزراعية المُوسَّعة والآخذة في التطوُّر، والنزاعات والنزوح القسري، وعدم كفاية البنية الأساسية للصحة العامة. ويتأثر إقليمنا تأثراً بالغاً بهذه التهديدات، لِما يتمتع به من بِنية متنوعة ومعقَّدة، إذ تشهد 9 بلدان وأراضٍ في الإقليم أزمات إنسانية ممتدة وواسعة النطاق، وهو ما يعني أن ما يقرب من 111 مليون شخص في حاجة إلى مساعدات إنسانية، وأن هناك 18.7 مليون نازح داخلي.
وعلى مدار العقدين الماضيين، وبالإضافة إلى جائحة «كوفيد-19» التي حصدت أرواح ما يقرب من 350 ألف شخص في الإقليم، وأُبلغ عن 23 مليون حالة إصابة تقريباً منذ بدايتها، عانى الإقليم تهديدات متنوعة للصحة العامة، أثَّرت على صحة الإنسان والحيوان والبيئة، وكبَّدت المجتمعات والاقتصادات خسائر فادحة. ويؤثر تغيُّر المناخ أيضاً على جميع جوانب حياة البشر والحيوان والبيئة.
ويعد نهج الصحة الواحدة مبادرة متعددة القطاعات، تهدف إلى التصدي لهذه المجموعة المعقَّدة من التهديدات. ويعترف هذا النهج بالترابط بين صحة البشر والحيوان والبيئة، وينفِّذ ممارسات تدعم اتخاذ إجراءات جماعية ومنسَّقة بين القطاعات المختلفة، على نحو أكثر فاعلية وكفاءة واستدامة. وينسجم كذلك مع رؤيتنا الإقليمية «الصحة للجميع وبالجميع» التي أُعلِن عنها في عام 2018، ودعت إلى العمل والتضامن لضمان الحق في الصحة لجميع مَن في الإقليم.
وقد اعتمدت منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، والمنظمة العالمية لصحة الحيوان، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (التي يُطلق عليها معاً اسم الرباعية) نهج الصحة الواحدة. وتقدِّم هذه المنظمات القيادة والتوجيه على الصعيدَين العالمي والإقليمي، لبناء القدرات الوطنية، وسد الفجوات، والتصدي للتحديات التي تعترض تنفيذ هذا النهج.
ووضعت المنظمات الأربع خطة العمل المشتركة بشأن الصحة الواحدة (2022 - 2026) التي تقدم توجُّهاً استراتيجيّاً شاملاً لتعزيز وحماية الصحة العامة، وصحة الحيوان، وسلامة الأغذية والأمن الغذائي، وصحة النظم الإيكولوجية.
إن العبء المتزايد لبعض أكبر القضايا الصحية على الساحة العالمية، ناتج عن قلة القيادة والحوكمة وقصور التنسيق المتعدد القطاعات. فمقاومة مضادات الميكروبات -على سبيل المثال- وما يترتب عليها من عواقب صحية واقتصادية في الإقليم، كانت نتيجة لغياب التنظيم، والاستخدام غير السليم للمضادات الحيوية في قطاع الرعاية الصحية، وكذلك استخدامها غير الرشيد في قطاع الطب البيطري والصناعات الحيوانية. والآن، باتت مقاومة مضادات الميكروبات خطراً داهماً يُهدِّد العلاج الفعال للأمراض المعدية.
وعلى الرغم مما شهدته السنوات الأخيرة من تنامٍ في معدلات قبول نهج الصحة الواحدة في الإقليم؛ إذ تبنَت بعض البلدان هذا النهج في مكافحة أمراض محددة حيوانية المصدر، بعضها أمراض مستجدة وأخرى تعاود الظهور، فلا توجد مبادرات تتصدى لجميع التهديدات الصحية ذات الأولوية. ولا تزال البـِنْية الأساسية والموارد اللازمة للوقاية من أخطار الأوبئة والجوائح، والكشف عنها مبكراً، والاستجابة لها، غير كافية في الإقليم. وتعاني نُظُم ترصُّد الأمراض في بلدان كثيرة من التفتُّت، وتستند آليات تبادل المعلومات بين القطاعات المختلفة في معظمها إلى جهود فردية. وتمس الحاجة إلى تحسين كفاءة وفاعلية استخدام البيانات، للاسترشاد بها في اتخاذ القرارات. ومع ذلك، لا يزال على بلدان كثيرة في الإقليم أن تُنفِّذ الترصُّد المتكامل باستخدام منصة إلكترونية واحدة.
وفِرَق الاستجابة السريعة ليست متعددة التخصصات في الأساس. ولا تسترشد برامج تنمية القوى العاملة بتقييم المخاطر، ولم يُدرِج أي بلد في الإقليم تقريباً نهج الصحة الواحدة في برامج التعليم أو التدريب المهنيَّينِ في المرحلة الجامعية أو مرحلة الدراسات العليا. كذلك، تعوق الموارد البشرية المحدودة في مختلف التخصصات إحرازَ تقدمٍ في تنفيذ مبادرات الصحة الواحدة في الإقليم. حتى يتحول النهج إلى واقع ملموس في جميع أنحاء الإقليم، علينا -نحن المنظمات والبلدان والحكومات والمجتمع المدني- أن ندرك أهمية الالتزام السياسي والمسؤولية الوطنية لتفعيل نهج الصحة الواحدة. وتضطلع الرباعية الإقليمية بدور قيادي قوي في الدعوة إلى هذا النهج. وتعطي هذه الشراكة الأولوية للأمراض الحيوانية المصدر، ومقاومة مضادات الميكروبات، وسلامة الأغذية، وتعزِّزُ الحوكمة الواضحة والقيادة في مجالات وضع السياسات السديدة، والتخطيط الاستراتيجي، والتنسيق والتعاون بين القطاعات المتعددة، بهدف التصدي للأخطار الصحية التي تُهدد التفاعل بين البشر والحيوانات والبيئة.
ويُعدُّ استكشاف الفرص السانحة لإدماج ترصُّد الصحة الواحدة أمراً بالغ الأهمية للكشف المبكر عن التهديدات الصحية. وثمة حاجة إلى إرساء آلية لتبادل المعلومات في الوقت الحقيقي بين القطاعات، من أجل تبادل التحذيرات وتوجيه تقييمات المخاطر.
وعلينا أن نضمن توفُّر عددٍ كافٍ من الموظفين المَهَرة والمدرَّبين، لتنفيذ الأنشطة ذات الصلة على مختلف المستويات الإدارية في البلدان. وعلينا أيضاً توطيد أواصر التعاون مع الأوساط الأكاديمية، لإعداد الموظفين اللازمين في مختلف تخصصات نهج الصحة الواحدة، وضمان استمرار بناء قدرات الموظفين الحاليين. والفرصة سانحة حتى نجعل إقليمنا، والعالم أجمع، مكاناً أكثر أمناً، إذا وضعنا استراتيجية مشتركة بشأن الصحة الواحدة.
7:44 دقيقة
TT
نهج الصحة الواحدة لا غنى عنه لمواجهة التهديدات الصحية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة