د. ياسر عبد العزيز
TT

رئيسة الوزراء ترقص!

كان ابن حزم الأندلسي هو من قال «من تصدر لخدمة العامة، فلا بد أن يتصدق ببعض من عرضه على الناس»، وهو في قوله هذا إنما كان يقصد أن صاحب المنصب العمومي يصدر القرارات، ويُفعل السياسات، التي تمس مصالح الناس، فينقسمون بصددها، بما يدفع المنتقدين إلى شتمه والنيل من عرضه.
لكن التطورات الاتصالية المُذهلة، التي شهدها عالمنا، أكسبت المعنى الذي قصده ابن حزم أبعاداً جديدة؛ إذ غدا هذا التصدق بشيء من العرض مُحتماً على كثيرين ممن تصدوا للعمل العام، بفعل الانحسار الشديد في نطاق خصوصياتهم، وقابليتها الكبيرة للاستباحة عبر الفضاء الإعلامي.
لقد قلصت التطورات الاتصالية المتسارعة، والنزعة التجارية المهيمنة على عمل العديد من وسائط الإعلام، المساحة الخاصة للشخصيات العامة إلى أضيق نطاق ممكن، في وقت تتراجع فيه القدرة على الدفاع عن قيمة الخصوصية باطراد.
ولا يمكن نسيان بعض الوقائع الشهيرة في هذا الصدد؛ مثل واقعة نشر صحيفة «ذي صن» صورة الأمير هاري عارياً على غلاف أحد أعدادها في عام 2012، رغم الشكوى التي تقدم بها القصر الملكي ضد الصحيفة وطلبه إزالة الصورة، ورغم تحفظ عدد كبير من وسائل الإعلام البريطانية على نشرها.
كان الأمير هاري آنذاك هو الثالث في ترتيب ولاية العرش البريطاني، وخلال سهرة صاخبة في أحد فنادق «لاس فيغاس»، تم التقاط تلك الصورة له، وفي خلفيتها تظهر فتاة عارية تقريباً، وحينما بث الصورة أحد المواقع الإلكترونية المهتمة بنشر فضائح المشاهير، انقسم الإعلام البريطاني بشأن نشرها، لكن صحيفة «ذي صن» اتخذت قرارها بالنشر، بداعي «حرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة».
وفي العام الماضي، عادت الصحيفة نفسها لتفاجئ الناس بنشرها صوراً تفضح قيام وزير الصحة مات هانكوك، بتقبيل كبيرة مساعديه في الوزارة في مكتبه الحكومي. ولم تكتف «ذي صن» بنشر الصور المثيرة للجدل فقط، بل أرفقت القصة الخبرية المتعلقة بالموضوع على موقعها الإلكتروني بفيديو يظهر خلاله الوزير وهو يحتضن مساعدته ويقبلها خلال ساعات الدوام الرسمية وفي المكتب الحكومي.
وقبل تلك الواقعة بست سنوات أيضاً، صدرت «ذي صن» بغلاف ناري حمل صورة واضحة لنائب رئيس مجلس اللوردات آنذاك جون سيويل، وهو يشم الكوكايين بورقة مالية فئة الخمسة جنيهات إسترلينية، على صدر بائعة هوى. ولم تكن تلك الصورة المثيرة الصادمة سوى جزء يسير من تقرير كامل وشريط فيديو بثته الصحيفة الشهيرة، وهو الشريط الذي نقل وقائع «سهرة ماجنة» أمضاها سيويل بصحبة فتاتي ليل، وتعاطى فيها المخدرات.
ورغم أن ما فعلته «ذي صن» آنذاك يُعد من الناحية النظرية انتهاكاً واضحاً لخصوصية سيويل، لأن أياً من الفتاتين لم تدع عليه أي ادعاء، كما أن ما فعله جرى في «حيزه الشخصي الخاص»، ولم يمثل إزعاجاً أو انتهاكاً لحرية آخرين أو أمنهم، فإن أحداً لم يوجه اتهاماً من أي نوع لـ«ذي صن»، أو يمنعها من متابعة القصة واستخدام المواد الخاصة بها في تغطيات تالية.
لم تفلح شكاوى القصر الملكي في حمل الصحيفة على عدم نشر صورة الأمير هاري، كما استقال لورد سيويل عقب نشر أنباء فضيحته، وهكذا أيضاً فعل الوزير مات هانكوك، وكلاهما اعتذر، ولم يلاحق الصحيفة أو يوجه إليها أي مساءلة.
وفي الأسبوع الماضي، كانت الأنباء عن نشر فيديو يُظهر رئيسة وزراء فنلندا الشابة سانا مارين، ترقص مع أصدقائها في حفلة صاخبة، تتصدر اهتمامات وسائل الإعلام المختلفة.
لاقت السياسية المرموقة انتقادات كبيرة من البعض لأنها ظهرت بهذه الصورة التي «لا تتناسب مع طبيعة منصبها القيادي»، ولمح البعض إلى إمكانية وقوعها تحت تأثير المخدرات، بينما دافعت مارين، ومؤيدوها، عن موقفها بالقول إن من حقها العيش والاحتفال، وإن قدرتها على ممارسة عملها لم تتأثر، وإن نشر هذا الفيديو انتهاك لخصوصيتها.
والشاهد أن الخصوصية قيمة حيوية لا يجب انتهاكها بزعم حرية الرأي والتعبير أو حق الجمهور في المعرفة، لكن قيام «الشخص العام» بسلوك شخصي يضر المصلحة العامة بشكل واضح، أو يؤثر في استقرار المؤسسات العامة، أو يزعزع الثقة فيها، قد يسوغ للإعلام اختراق تلك الخصوصية، كما حدث تماماً في وقائع الأمير هاري، ولورد سيويل، ومات هانكوك، وهو أمر يُضعف أيضاً قدرة أطر المحاسبة على حماية تلك الخصوصية.
من الضروري أن تبقى الخصوصية قيمة حيوية عصية على الانتهاك بأي زعم، طالما أن السلوك الذي يأتيه الشخص العام لا يتقاطع مع المصلحة العامة في شيء، ولا يسبب لها أي ضرر، ولا يهز صورة المؤسسات، أو يُغري بها.