داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

هل تحمي المظلات من غبار الكابوس النووي؟

في السنوات، منذ توقف الحرب العالمية الثانية في عام 1945 حتى اليوم، لم نسمع عن حرب عالمية «ثالثة»، لكننا سمعنا عن «الحرب العالمية الباردة» بين المعسكرين الشرقي والغربي، وقرأنا عن «الحرب العالمية على الإرهاب»، وتابعنا وشاهدنا وعشنا حربين عالميتين على العراق في عامي 1991 و2003 شاركت فيها عشرات الدول ضمن التحالف الأميركي – البريطاني. إلا أن هذا التوصيف لا يمنح هاتين الحربين صفتي «العالمية» أو «الثالثة».
وتصرّ القيادة الروسية على أن الحرب التي شنّتها على أوكرانيا ليست بداية الحرب العالمية الثالثة، كما يقول بعض المعلقين في دول مختلفة. وتؤكد أيضاً على أن ما جرى منذ 24 فبراير (شباط) الماضي وحتى اليوم هو مجرد «عملية عسكرية خاصة» لها أهداف محددة وخطط مرسومة لتأمين الحدود الروسية فحسب.
الفضل في عدم نشوب حرب عالمية ثالثة حتى اليوم يعود إلى الأسلحة النووية التي تمتلكها تسع دول هي الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية وإسرائيل، وكلها حوّلت سلاحها «التدميري» إلى سلاح «تهديدي» إلى أن تحين ساعة الصفر.
في الخرائط العسكرية الحربية يُشار إلى الحرب العالمية الثالثة اختصاراً بـ(WWIII أو WW3) وهو رمز لا يشمل النزاعات الإقليمية المحدودة. وكما تخشى البشرية الأسلحة النووية، تخشى الأسلحة البيولوجية. لكن يمكن مجازاً إطلاق تسمية «حرب جائحة كورونا» العالمية بحكم انتشارها في العالم كله. والخشية اليوم من انتشار «حرب تجويع عالمية» في القارات القريبة والبعيدة. وربما تؤدي «حرب الطاقة» في الشتاء المقبل إلى «حرب ثلوج عالمية» في أوروبا الغربية، إذا لم يجدوا حلولاً وبدائل مبكرة.
حين اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) قيل إن هذه الحرب «تُنهي جميع الحروب». وتم إطلاق صفة «الحرب العظمى» على تلك الحرب التي شارك فيها أكثر من 70 مليون عسكري، ستون مليون منهم أوروبيون. ويُقدر عدد الضحايا بأكثر من تسعة ملايين مقاتل وسبعة ملايين مدني، وهي أرقام كبيرة نسبة إلى سكان ذلك العصر. وكان سبب الحرب خلافات على احتلال وإدارة ولاية البوسنة العثمانية، بالإضافة إلى اغتيال الحاكم النمساوي فرانز فرديناند وزوجته. ودائماً أسباب الحروب سهلة ويمكن تطويقها، لكن نهاياتها هي المشكلة العسيرة التي تغطس في دماء الضحايا من الأطراف المشاركة، وربما تتحول من مشكلة بين دولتين جارتين إلى مشكلة مثل الحرب الأوكرانية التي قد يغري نصر هنا، أو هزيمة هناك، بالزحف إلى دول أخرى، ومن ثم تتحول هذه الحرب إلى حرب عالمية ثالثة أو رابعة.
قبل أيام نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في منتدى حواري، قال فيها «إن المواجهة القائمة حالياً مع الغرب، ليست مرتبطة فقط بالوضع في أوكرانيا، وإنما هي صراع بين نموذجين لإدارة العالم».
قد نتفق مع بوتين أو لا نتفق في عدم صلاحية أحد النموذجين أو كليهما، لكن الأشهر الخمسة الأخيرة من الحرب على أوكرانيا لم تبشّر البشرية بنموذج يستحق أن تتقاتل الشعوب من أجله، وأن تموت من الجوع أو الخوف أو البرد في سبيله. نعم نتفق مع بوتين على أن النموذج الغربي قام على «نهب ثروات الشعوب» في آسيا، وأفريقيا، وأستراليا، وأميركا الشمالية والجنوبية وأوروبا. لكن النموذج المقابل قام على «مصادرة حريات الشعوب». لا وجه للمقارنة؛ لأن النموذجين انتهت صلاحيتاهما أو كادت منذ أكثر من قرن على نهاية الحرب العالمية الأولى.
قد لا نجد أحداً من قراء هذا المقال يرفض ما قاله الرئيس الروسي عن «نظام عالمي متناغم وأكثر إنصافاً وبتوجه اجتماعي وآمن بديلاً عن النظام الحالي». لكن هذا النظام لا نعثر عليه في ميادين الحروب أو جبهات القتال، أو تحت المباني المنهارة أو مقابر الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.
في عام 1945، مع إعلان قيام الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وحقوق الإنسان بدأ عهد جديد من السلام والحريات العامة والشخصية، التي توفر مجتمعات ذات قيم وأفكار وإبداعات وعلوم أوصلتها إلى الفضاء الخارجي وأعماق المحيطات، فلماذا أخفق مجلس الأمن الدولي في اختيار نموذج الحياة الأفضل والأبهى والأسلم؟ ليس معقولاً ولا مقبولاً أن نجد النموذج المثالي للحياة في مدن تم دكّها بالصواريخ والمدافع والدبابات والمُسيّرات... ولم تبق إلا القنابل الذرية.
وحسناً قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إنه «لا يوجد منتصر في الحرب النووية، ولا يجوز أن تندلع تلك الحرب أبداً، وإن عقيدتنا تنص على أن موسكو يمكنها أن تشن ضربة استباقية وقائية في حال تعرض الأمن القومي الروسي لتهديد نووي جدي». لقد كان أخطر البيانات العسكرية الروسية الأولى في الساعات المبكرة من «العملية العسكرية الخاصة» التي شنّتها موسكو على كييف، ينص على «وضع قوات الردع النووي الروسية في حالة تأهب قصوى». واستغرب المراقبون هذا «الإنذار» في وقت لم تتحرك فيه أوروبا الغربية خطوة واحدة في إطار مساندة أوكرانيا عسكرياً حتى ولو بالبنادق.
وقّعت حتى اليوم 191 دولة على اتفاقية عدم انتشار السلاح النووي التي بدأ التوقيع عليها في عام 1968 حفاظاً على السلام العالمي ومستقبل البشرية. ولم توقّع عليها الهند، وباكستان، وإسرائيل وكوريا الشمالية. أما برنامج إيران النووي، فقد بدأ في الخمسينات من القرن الماضي قبل سقوط النظام الملكي وسيطرة نظام الملالي في عام 1979 بمساعدة من الولايات المتحدة (يا للمفارقة!) وبدعم وتشجيع ومشاركة حكومات أوروبا الغربية، وتوقف البرنامج بعد مجيء نظام الخميني مؤقتاً وأعيد تشغيله بعد فترة مجدداً. وهو يضم مواقع بحثية عدة ومنجماً لليورانيوم وأكثر من مفاعل نووي للتخصيب، وفي طريقه إلى تصنيع قنابل نووية لا رقابة عليها كما هو الحال مع التصنيع النووي الإسرائيلي والكوري الشمالي.
وبالعودة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل لا يثق بالزعيم السوفياتي جوزيف ستالين وتهديداته الجدية باجتياح أوروبا الغربية اعتماداً على عدد هائل من قوات الجيش الأحمر في أوروبا الوسطى والشرقية في نهاية الحرب العالمية الثانية. الآن، تتكرر حالة اللاثقة بين الشرق (روسيا، والصين، وكوريا الشمالية وإيران) من جهة، والغرب من جهة أخرى (الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا، ومعها أستراليا، ونيوزيلندا، واليابان ودول أوروبا الغربية غير النووية). لكن هذه الدول الغربية تلقت تعهدات أميركية بحمايتها في أي حالات مستقبلية؛ ما يجعل كلاً منها واحدة من 31 دولة خاضعة لمظلة الولايات المتحدة النووية، فهل تحمي فعلاً المظلات من غبار الكابوس النووي؟