عندما كنا نسأل، في البداية الأولى للأزمة السورية، عن سبب وجود «مربعات أمنية» في القامشلي والحسكة تتبع للسلطة السورية في دمشق، رغم إعلان الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وتحول قواتها «وحدات حماية الشعب والمرأة»، ولاحقاً «قوات سوريا الديمقراطية»، إلى رمز عالمي ضد الإرهاب، فإننا لم نتردد في قول مفاده أننا لم نجد أفضل من هذه «المربعات» وغيرها، كي يُستَدل على مشروعنا بأنه غير انفصالي، وأنه الموحد لسوريا المقسمة، هذه اللحظة، إلى ثلاث مناطق، وبأن مشروعنا، في الوقت الذي يفرق فيه بين مؤسسات الدولة الوطنية ومعارضة النظام المركزي الاستبدادي، فإنه أيضاً عامل إضافي مهم في دعم استقرار وأمن المنطقة برمتها.
رغم ذلك، فإنه لا يمكن القول بأن خط دمشق - القامشلي، طريق الحكومة المركزية - الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، كان معبداً بالنجاح. على العكس، فإنه يعج بالعراقيل والتحديات ذات المنشأ الذاتي، المتعلق بالذهنية التي تظهرها سلطة دمشق في إعادة إنتاج صيغة النظام شديد المركزية لعام 2011 وما قبله. وهناك التحديات الكبيرة ذات المنشأ الخارجي، والتدخلات الإقليمية والدولية في سوريا، ولكل منها أجندة ذات مناخات استراتيجية ومزاج معرقل لحوار حقيقي بين الحكومة المركزية والإدارة الذاتية.
وفي هذا، تتبدى على الفور تركيا التي تجهد لإفشال مثل هذا الحوار. فهي بالأساس تحرص على ألا يكون للكرد أي دور في سوريا. ومع الأسف، هذا موقف تركيا الرسمي القديم الجديد. والمطلوب منها إحداث تغيير راديكالي لهذه النظرة التي سترتد عليها وتجعل أنقرة أمام نتائج كارثية، في حال لم تستدرك ذلك ولم تقم باتباع استراتيجية أكثر انفتاحاً على الكرد في تركيا وباقي المنطقة، وتقتنع بأن الكرد السوريين جزء مهم من سوريا والمنطقة، ولا يمكن تجاوز هذه الحقيقة.
لحل الأزمة السورية هناك مخارج، أهمها إنجاح الحوار السوري - السوري المتعلق بإيجاد توافق بين دمشق والقامشلي. ولهذا المخرج معادلة تتألف من شطرين: أن تكون الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها جزءاً من النظام الإداري السوري العام، وأن تكون «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) جزءاً من مؤسسة الجيش السوري، وفق آليات وصيغ يُتفق عليها بين الطرفين، بشكل يضمن خصوصية معينة لـ«قسد» في المناطق التي نجحت إلى درجة معينة في إرساء الأمن والاستقرار فيها، رغم أنها تعد نسبياً ناجحة مقارنة بالمنطقتين السوريتين الأخريين. ورغم ذلك، فإن هذا النجاح ليس كافياً، ولا يعبر عن رؤية «قسد» لنفسها، والتي تؤكد أن حماية المكونات السورية والسيادة السورية وظيفة أساسية لـ«قسد»، إلى جانب التصدي للتنظيمات الإرهابية التي تستثمر فيها أنقرة حتى الآن، من ليبيا إلى ناغورنو كاراباخ.
وهناك مجموعة من الحقائق يجب أن يدركها كل من له علاقة بالشأن السوري، وعلى رأسها فشل النظام المركزي في سوريا. فاللامركزية هي قوة للحوكمة المركزية ولوظائف السيادة المعهودة، واللامركزية الديمقراطية هي نفسها التي تعد مخرجاً أخلاقياً إنسانياً اقتصادياً سياسياً اجتماعياً للأزمة السورية، والإدارة الذاتية الديمقراطية على أساس المكونات المجتمعية، ومن بينها القومية، حل سوري ملموس لدمقرطة سوريا بكل ما تحتويه من قضايا وإشكاليات، وفي مقدمتها قضية الشعب الكردي في سوريا ومسائل العيش المشترك ووحدة المصير.
إن تشكيل الإدارات الذاتية في سوريا ليس بالتقسيم، ولا يمكن التقليلُ من شأن أمثلة مستجدة أو قديمة كانت السبب في حالة التقسيم القائمة، وتتمثل في ممارسات المركز وتبعيته وفساده، بالإضافة إلى كتلة مضادة نابذة لأي وحدة، وفي جميع المواقع والجهات. لكن سوريا المعاصرة، وليست التاريخية، حالها حال كل الجغرافيا الحديثة التي أنشأتها اتفاقية «سايكس بيكو»، لم تمر إلى اللحظة بحالة المجتمع السياسي الأخلاقي، بسبب تسلط المذهبية السياسية التي وجدت نفسها محصنة من خلال فخاخ صنعتها: فخ الأمم النمطية، وفخ المركزية، وفخ التنميط السياسي. وهذه كلها ليست سوى عوائق معرفية طوقت الحالة السياسية السورية ومنعتها من الظهور. ومشروع الإدارة الذاتية يعد أحد أهم المشاريع النهضوية في طريق استنبات المجتمع السياسي وفك الفخاخ الثلاثة: حل الأمة الديمقراطية بدلاً من الأمم النمطية، وحل اللامركزية الديمقراطية بدلاً من النظام المركزي الاستبدادي، والانتقال إلى حالة نظام أخلاقي سياسي إيكولوجي بدلاً من التنميط الاستبدادي.
ويمكن توصيف مسار العلاقة بين السلطة في دمشق والإدارة الذاتية بالمهادنة، ثم الخصومة الجزئية، ثم الانتقال إلى حوار الضرورة. وقبول الأطراف السورية بأن العقد الاجتماعي السوري لم يؤَسَس بعد ويجب تأسيسه، وأنه في اللامركزية تكمن صيغة حل الأزمة على أساس مسار سياسي معنون بالقرار الأممي 2254 الذي يقضي في لحظة معينة بضرورة توزيع السلطة السياسية ما بين المركز والأطراف، على نمط الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال ولشرق سوريا التي هي جزء مهم من سوريا.
السلطة في دمشق جزء من الحل، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول إن طرحنا هذا جديد، أو إن صوتنا هذا يقوى كلما قويت حركة مدافع تركيا نحونا.
لا، إن مقاربتنا هذه هي المقاربة الثابتة لدينا منذ بداية الأزمة السورية، رغم تأكيدنا أن القضية تكمن في طبيعة النظام المركزي. ومن المهم للسلطة في دمشق أن تقتنع بأن الإدارة الذاتية الديمقراطية ليست ضرورة مرحلية فقط، أملتها الظروف التي مرت بها سوريا، وإنما لهذه الإدارة دواعٍ وأسباب تسبق الأزمة. ورغم أنها تأسست في الأزمة، فإنها تبدو اليوم كحل مُتقدم للأزمة.
كذلك، من الخطأ أن تفكر جهة ما بأن هذه الإدارة الذاتية معنية فقط بإيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سوريا، بل هي تعبر عن مسألة مجتمعية لها قضاياها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في الوقت ذاته.
الوقت مناسب للحوار وفق سلة الحزمة المتكاملة.
وعلى الخط بين الحكومة المركزية والإدارة الذاتية الديمقراطية، والخط بين دمشق والقامشلي، ثمة ملامح لمرحلة جديدة تتعافى فيها سوريا، من خلال اجتراح الحلول المطلوبة التي تحتضن فيها سوريا عموم أبنائها. خلاف ذلك، فإذا طال الطريق، فإن المخاطر تزداد وتهدد بشكل مباشر وحدة سوريا وعموم بلدان المنطقة، لأننا بالأساس نعيش مرحلة وحشية انتقالية، لن تهدأ بدورها حتى يستقر هذا العالم على نظام جديد يدفن فيه النظام القديم.
* عضو المجلس الرئاسي لـ«مجلس سوريا الديمقراطية»
8:7 دقيقه
TT
فرص الحل وتحدياته بين دمشق والإدارة الذاتية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة