مسعود لاوه
صحافي من كردستان العراق انضم إلى أسرة "الشرق الأوسط" في عام 2001 ويعمل حاليا سكرتير تحرير فيها.
TT

ظاهرة «بتحط العقل بالكف»

لست من «العارفين بكل شيء». «والعارفون بكل شيء» - للعلم فقط - هم الذين لا يعرفون عبارة «لا أعرف»، ولا توجد في قاموسهم اليومي؛ فلو سألت أحدهم عن علوم الذرة إلى علوم النفس والفلسفة، رد عليك بإجابة لا تمت من قريب ولا من بعيد للموضوع بصلة.. المهم ألا يقول لك: لا أعرف.
والحمد لله أنني لست واحدا منهم؛ لذا أبحث عن إجابة لظاهرة انتشرت مؤخرا حول تطبيق لعبة باسم «فلابي بيرد» (أي الطائر المرفرف جناحه) على الهواتف الذكية التي قرر مبتكرها مؤخرا، نغوين ها دونغ، وقفها، واعتذر للمستخدمين، على الرغم من أن اللعبة كانت تحقق 50 ألف دولار يوميا من خلال الإعلانات. وجرى تنزيلها على نظام التشغيل «أندرويد» فقط ما يصل إلى 50 مليون مرة. ولم يصرح دونغ بالسبب الحقيقي وراء قراره هذا.
لكن الظاهرة الغريبة التي «بتحط العقل بالكف»، كما يقول الشوام، هي أن بعض البائعين على موقع التسوق الإلكتروني «إي باي» تمكنوا من بيع أجهزتهم الذكية «آي فون» أو «آي باد» بمبالغ لا يمكن للعقل أن يتقبلها، وصل بعضها إلى عشرات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية. وليس ذلك بسبب أن تلك الأجهزة مرصّعة بالماس أو مطلية بالذهب الخالص، فيشتريها الذين أنعم الله عليهم، أو الذين «أنعموا» على أنفسهم، لكن السبب فقط أنها تحمل لعبة «فلابي بيرد».
أنا أعرف أن مثل هذه الصرعات من الممكن أن تنتشر في مجتمعاتنا، وقد حصل أن انتشرت فعلا. كما حدث في إحدى الدول العربية في أوائل التسعينات عندما انتشرت شائعة بأن الكمية القليلة من مادة «الزئبق» من الممكن أن تدر على صاحبها مبالغ طائلة (آلاف الدولارات)، بدعوى أن إيران (أو إسرائيل في بعض الروايات) تبحث عن هذه المادة لاستخدامها في صنع الأسلحة الذرية، فانشغل كثير من الناس يبحثون عن تلك المادة بغية الربح السريع. أو كما انتشرت في دول عربية أخرى، قبل أعوام، شائعة أخرى تحدثت عنها وسائل الإعلام، وتفيد بأن ماكينات الخياطة القديمة المصنعة بواسطة شركة «سنغر» الألمانية تحوي «الزئبق الأحمر» الباهظ الثمن، الذي يتردد أنه يدخل في صناعات كثيرة، لعل أبرزها تصنيع الأسلحة المتطورة، الأمر الذي حدا بالبعض إلى بيع الواحدة منها بآلاف الدولارات، وصلت بعضها إلى 13 ألف دولار، في وقت لا يتعدى فيه سعرها الحقيقي مائة دولار.
لكن على الأقل كان هناك تفسير (مقنع أو وهمي) لما كان يحدث في مجتمعاتنا (وجود الزئبق الأحمر، الذي من الممكن استخدامه في الأسلحة المتطورة).
لكنني لم أكن أتوقع انتشار مثل هذه الظاهرة في بلاد متطورة، مثل بريطانيا، خصوصا أنه من الصعب أن تجد تفسيرا لها. حاولت أن أجد تفسيرا لما يحدث على موقع «إي باي»، ففكرت في احتمال الشراء والاحتكار بنية البيع لاحقا بأضعاف سعرها.. فكرت في احتمال أن يكون دافع الحب، أو بالأحرى الدلال الزائد للابن الملحّ على اقتناء اللعبة، هو الذي يدفع بالبعض إلى دفع مثل تلك المبالغ لشراء جهاز «آي فون»، لمجرد أنه يحمل لعبة طائر يحاول اللاعب إبقاءه محلقا في الأجواء، مع تجاوز بعض الموانع والصعوبات.
هذه التفسيرات وغيرها تحلق في سماء اللامعقول عندما تعرف أن بعض هذه الأجهزة بيعت بـ120 ألف جنيه إسترليني، وبعضها بـ70 ألف جنيه إسترليني، وهكذا.
وما يزيد الحيرة أكثر ويطيّر بقية العقل «المحطوط بالكف»، هو أنه ليس كل البائعين لأجهزتهم الذكية يحظون بهذه المبالغ الطائلة، على الرغم من أنها تحمل اللعبة ذاتها، ولا تختلف عن بقية ميزاتها الأخرى من الأجهزة «الكنز».
فلا أدري سرّ السبب الحقيقي وراء دفع كل هذه الآلاف من أجل تطبيق لعبة يفضلها الصغار، ويبدو أن بعض الكبار مغرمون بها أيضا.
فلو أن أحدا يملك الجواب، نشكره إذا تكرم بإفادتنا به. ونشكره أكثر لو التزم الصمت إن كان من «العارفين بكل شيء».