د. ياسر عبد العزيز
TT

هل يُنهي اليافعون عهد الصحافة المؤسسية؟

عندما يجري الحديث عن أهمية الصحافة في حياة المجتمعات والدول، أو ضرورة الكفاح من أجل ضمان حريتها، لا بد أن يَرِد ذِكر السياسي الأميركي التاريخي توماس جيفرسون (1743 - 1826)، الذي ذهب بعيداً في دفاعه عن الصحافة ودورها، حين قال: «لو أنني خُيرت بين أن تكون لدينا حكومة من دون صحف، أو صحف من دون حكومة، لما ترددت لحظة في تفضيل الخيار الأخير».
كان جيفرسون أحد «الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة الأميركية، والكاتب الرئيسي لإعلان استقلالها، وثالث رؤسائها، وأحد أكثر المدافعين عن الديمقراطية ودور الصحافة في صيانتها وازدهارها، إلى حد أنه ربط مباشرةً بين وجود الصحافة الجيدة، والقدرة على صنع الأمن والاستقرار، حتى إنه قال: «إذا كانت الصحافة حرة، وبإمكان الجميع القراءة، فسوف يعم الأمان».
سيمكن اعتبار أن تفضيل جيفرسون وجود الصحافة الجيدة على وجود الحكومة نوعاً من الرومانسية المُفرطة لأحد السياسيين والمُنظرين الذين بنوا سمعتهم على الدفاع عن الحرية والديمقراطية ودور الصحافة، لكنّ عبارته التي تربط بين وجود الصحافة الحرة، الموجهة إلى جمهور قادر على القراءة من جانب، وبلوغ الأمان من جانب آخر، تبدو أكثر قابلية للإثبات.
ومع ذلك، فإن جيفرسون لم يعش إلى الزمن الذي هيمنت فيه وسائل «التواصل الاجتماعي» على الساحة الإعلامية العالمية، بموازاة تراجع أدوار المؤسسات الصحافية «التقليدية» في عرض الأخبار، وسط توجه قطاعات غالبة بين الجمهور الأقل سناً إلى الوسائط الجديدة للتزود بالأخبار والتحليلات والأفكار.
لدينا الآن مجموعة من الوسائط النافذة والرائجة التي تعرض الأخبار بكثافة وتنوع واطّراد. ولدينا مليارات من البشر الذين يتقنون القراءة ويمتلكون القدرة على الوصول إلى تلك الأخبار بسلاسة وسهولة لم يعرفها التاريخ من قبل. ولدينا قدر لافت من الحريات التي تتمتع بها تلك الوسائط لم يحدث أن حظيت به منظومة إعلامية «تقليدية»، ومع ذلك فإن القدرة على تحقيق الأمان والاستقرار والثقة وإدراك الحقائق تتراجع بشدة.
وبموازاة كل خبر عن اتساع نطاق التعرض لوسائط «التواصل الاجتماعي» وزيادة قدرتها على النفاذ والتأثير في قطاعات الجمهور، يَرِد خبر آخر عن موت صحيفة، أو تعزّز الضغوط على مؤسسة إعلامية «تقليدية»، أو انصراف نسبة من زبائنها عن الاعتماد عليها لصالح «السوشيال ميديا».
وفي الأسبوع الماضي، ظهر مؤشرٌ جديد إلى اتساع هيمنة الوسائط الجديدة على نطاق التعرض للأخبار، خصوصاً في أوساط اليافعين «الذين يشكلون نصف الحاضر وكل المستقبل»، حين أعلنت الهيئة المسؤولة عن تنظيم الاتصالات في المملكة المتحدة (أوفكوم) نتائج تقرير أنماط استهلاك الأخبار في البلاد خلال الفترة 2021 - 2022 ليظهر لنا أن «إنستغرام» و«تيك توك» و«يوتيوب» كانت أهم ثلاثة مصادر للأخبار على التوالي للمراهقين في بريطانيا، بينما تراجعت «بي بي سي»، التي احتلت هذه المكانة لعقود، إلى المركز الخامس.
يشكّل اليافعون، الأقل من عشرين سنة نحو ثلث سكان العالم. ونصفهم تقريباً يتصلون بـ«الإنترنت»، حيث يُمضون نحو سبع ساعات يومياً في تصفح المواقع عليها، ليتزودوا من خلالها بالأخبار والمعلومات والتحليلات، ويتأثروا بالمنظور الذي تستخدمه في تقديمها، ثم يشكلوا رؤيتهم للعالم، ويتصرفوا على هذا الأساس.
لكنّ الدراسات التي أُجريت على الوظيفة الإخبارية لتلك الوسائط الجديدة تنذر بمخاطر كبيرة. إذ تؤكد أن معظمها أخفق إخفاقاً شديداً في مواجهة نشر الأخبار المُضللة، وعجز عن «فلترة المحتوى» وفق معايير مهنية، في الوقت الذي تكفلت فيه «الخوارزميات» التي تعتمد عليها بترويج المحتوى الضار وغير الخاضع لأي تقييم.
تنضم دراسة «أوفكوم» الأخيرة إلى سيل آخر من الدراسات والبحوث التي أفادت بوضوح بأن أنماط التعرض للأخبار عبر «السوشيال ميديا»، بين اليافعين خصوصاً، تحفل بالنزعات الفردية على حساب معالجة الشؤون العامة، وتتفادى السؤال عن المصدر أو التثبت من وجوده، كما لا تهتم باسم الناشر الأصلي للمعلومة، بموازاة ميلها إلى تعزيز وجود المعلومات المُضللة عبر تبادلها والترويج لها.
وفي عودة إلى ما سبق أنْ قاله جيفرسون، حين ربط بين الصحافة الحرة، والقدرة على الاطلاع، وتحقيق الأمان، يبدو أن هذه المعادلة لن تقوى على الصمود في وقت تغيب الصحافة بمعناها المؤسسي عنها، وتترك مكانها لمعرض «الأخبار» الجديد، الذي لا يقيم وزناً لكثير من المعايير والقيم التي بُني عليها عالم الصحافة.
لمعالجة هذا الخلل العالمي الخطير، ستكون الحكومات والمنظمات الأممية والمؤسسات الصحافية الكبرى معنية بإيجاد وسائل للضغط على مشغّلي وسائط «التواصل الاجتماعي» من أجل إرساء معايير لتداول الأخبار، ودفع مقابل لاستخدامها، يذهب إلى تدعيم أداء الصحافة المؤسسية وضمان استدامتها.