فاي فلام
TT

«بي إيه ـ5» والضرر التراكمي

من الواضح أنَّ الصور التي نفكر بها بشأن جائحة «كوفيد» تطورت مع تطور الفيروس: عام 2020، نظرنا إلى «كوفيد ـ 19» باعتباره تهديداً مميتاً يمكننا تجنبه من خلال توخي الحذر. أما في عام 2021، نظرنا إليه باعتباره من المحتمل أن يصيب الجميع في نهاية المطاف. والآن، ننظر إليه باعتباره خطراً صحياً مستمراً يمكن أن يصيب الأشخاص مرات عدة، وفي كل مرة يتسبب في ضرر تراكمي ويزيد من احتمالات ظهور أعراض طويلة الأمد.
الآن، وبعد أن أصيب معظم الأشخاص بالعدوى، لا توجد طريقة أخرى يمكن لمتحور جديد من خلالها أن يتولى زمام الأمور، إلا من خلال اختراق المناعة من العدوى والتطعيمات السابقة.
ربما يختلف تعريفك لـ«الأسوأ». المؤكد أن هذا المتحور الأشد قدرة على العدوى حتى الآن - إلا أن توافر اللقاحات على نطاق واسع سيجعلها أقل فتكاً بكثير عن المتحورات السابقة. ويتركز القلق هنا بخصوص الضرر التراكمي، خاصة للقلب والمخ؛ ما يعد سبباً كافياً لتجنب الإصابة مرة أخرى، ولكن هناك حدوداً لأي مدى يمكن للناس تحاشي الإصابة بـ«بي إيه. 5». ربما يتجاهل الشباب والأصحاء العدوى المتكررة باعتبارها أشبه بنزلات البرد العادية، في حين أن الأشخاص الأكبر سناً أو الأكثر مرضاً أو الأكثر ضعفاً الذين حاربوا الفيروس بالفعل من قبل، لديهم شيء آخر يدعو للقلق.
تنبع بعض المخاوف الأخيرة حيال الأضرار التراكمية من دراسة لسجلات الرعاية الصحية من وزارة شؤون المحاربين القدامى في الولايات المتحدة. نظر الباحثون في سجلات أكثر عن 5 ملايين شخص لمقارنة مصير الأشخاص الذين لم يصابوا بالعدوى قط بأكثر عن 250 ألفاً سعوا للحصول على رعاية بعد تعرضهم لعدوى واحدة من فيروس «كوفيد ـ 19»، وقرابة 38.000 سعوا للحصول على رعاية صحية بعد تعرضهم للعدوى مرتين أو ثلاثاً. وخلصت الدراسة إلى أن مخاطرة التعرض لضرر طويل الأمد أو أعراض طويلة الأجل تزداد مع التعرض لعدوى ثانية.
أما الأمر الذي لم يتضح بعد فهو ما إذا كان الضرر ناتجاً من عدوى متكررة شديدة إلى حد ما أو ما إذا كان له أي علاقة بـ«مرض كوفيد الطويل»، المتلازمة الغامضة التي تصيب الأشخاص الأصحاء سابقاً بأشهر من التعب الشديد والمشكلات الصحية الأخرى. بجانب ذلك، فإنه بالنظر إلى تركيبة العينة - بلغ متوسط عمر الأشخاص أكثر عن 60 عاماً، وقد أصيبوا جميعاً بالمرض بدرجة كافية للحصول على علاج، وهو ما لا يفعله جميع مرضى «كوفيد» ـ فإن النتائج ربما تبالغ في تقدير خطر الإصابة مرة أخرى بين عامة الناس.
وأوضحت دراسة أخرى نشرتها دورية «ساينس» سبب ظهور مشكلة إعادة العدوى حتى بين الذين تلقوا اللقاح، على الرغم من دراسات سابقة أظهرت أنَّ الأشخاص يبنون أجساماً مضادة قوية ضد هذا الفيروس. واقترح القائمون على الدراسة أن المناعة من المتحورات السابقة من الفيروس قد تثبط في الواقع قدرة الجسم على تطوير مناعة تجاه «أوميكرون» - المتحور الذي كان سائداً، في صور مختلفة، منذ الشتاء.
استعان الباحثون بعينات دم من 731 من العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين تلقوا اللقاح والجرعات المعززة في المملكة المتحدة. وعثروا على إشارات تنبئ بأن الإصابات السابقة بالمتحور الأصلي، أو الفرعين «ألفا» و«دلتا»، قد تتداخل مع قدرة الجسم على صنع أجسام مضادة خاصة بـ«أوميكرون» ومتحوراته الفرعية؛ ما يجعل الناس أكثر عرضة للعدوى من جديد.
وتدور الفكرة، التي أطلق عليها الباحثون اسم التخميد المناعي أو البصمة، حول أن الجهاز المناعي يمكن أن يعلق في تكوين أجسام مضادة مبرمجة لمحاربة هذه المتحورات السابقة، وبالتالي إنتاج أسلحة ليست موجهة تماماً لتناسب الأهداف الجديدة.
إلا أنَّ الدراسة كانت أصغر من أن تستنتج أي شيء - في أحسن الأحوال، تشير إلى أن البصمة المناعية تستحق المزيد من الدراسة. ومثلما أشارت اختصاصية الأمراض المعدية، مونيكا غاندي من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، فإن 17 شخصاً فقط من المشاركين في الدراسة أصيبوا بـ«أوميكرون». علاوة على ذلك، لم تتعقب الدراسة مسألة الإصابة بالعدوى مجدداً على أرض الواقع، وإنما تفحصت مدى كفاءة الأجسام المضادة والخلايا المناعية المتبقية من اللقاحات والعدوى السابقة في محاربة متحور «أوميكرون» داخل أنابيب الاختبار. ونظراً لأن الباحثين درسوا المناعة الطبيعية، فليس من الواضح كذلك ما إذا كان للقاحات نفس التأثير.
إلى جانب ذلك، فإن الأجسام المضادة ليست خط دفاعنا الوحيد، فقد أوضحت غاندي، أن العديد من الدراسات الأكبر مثل هذه الدراسة المنشورة بدورية «ساينس» تكشف عن أن مكوناً طويل الأمد من المناعة، وهو الخلايا التائية، يجري الحصول عليه من اللقاحات والعدوى السابقة.
إلا أن قضية البصمة المناعية هذه تستحق المزيد من الدراسات الأكبر والأعمق؛ لأن العلماء ما زالوا بعيدين عن فهم طبيعة المعركة التي تدور بين هذا الفيروس المتطور وأنظمتنا المناعية.
ومع ذلك، لا تزال اللقاحات الحالية تعمل على الوقاية من العدوى الشديدة، وهذا قد يعني أن الأشخاص الذين تناولوا اللقاح والجرعات المعززة بشكل كامل الذين يصابون باثنين أو ثلاث إصابات خفيفة على مدى سنوات لن يواجهوا نوع الخطر طويل الأمد الذي يواجهه الأشخاص الذين لم يتلقوا اللقاح.
في هذا الصدد، قال أميش أدالجا، الطبيب والباحث البارز في كلية جونز هوبكنز بلومبرغ للصحة العامة، إنه ليس من المستغرب أن يستمر الفيروس في التحور والتطور بطرق تسمح له بالبقاء على قيد الحياة وسط مجتمع مناعي متزايد. وأضاف «في اعتقادي، كانت الوقاية من العدوى دوماً هدفاً ثانوياً للقاحات، في حين كان الهدف الأساسي التخلص من الجحيم الذي كان يحدث في المستشفيات».
وبالنظر لمدى سوء حالة الاكتظاظ بالمستشفيات في مدينة نيويورك عام 2020، ربما لا يعتبر الكثيرون «بي إيه. 5» الحدث «الأسوأ»، خاصة أن الناس لا يموتون بنفس المعدل مثل عام 2020.
ومع ذلك، فإن الناجين من هذا الرعب يواجهون اليوم مصدر قلق جديداً. ويعتمد مدى سوء الأمور في جزء منه على ما إذا كان بإمكان المراكز للسيطرة على الأمراض ومجتمع الصحة العامة البدء في إمداد الناس بإرشادات واضحة وصادقة، حول كيفية التغلب على هذا التهديد الصحي المتطور على المدى الطويل.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»