علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

محمد محمد حسين وموت في «البانيو»

يدعي أنور الجندي أنه أجرى الحوار الأخير مع الدكتور محمد محمد حسين «أثناء زيارته للقاهرة، على أمل أن يتم في زيارة أخرى، غير أن قضاء الله نفذ قبل أن يتم الحوار».
وفي أول سطر من حواره المزعوم معه، ذكر أنه رئيس قسم الأدب واللغة العربية بجامعة الإمام بن سعود الإسلامية. أي أنه أجرى الحوار معه وهو ما يزال على رأس عمله في هذه الجامعة.
إن كان يقصد أنه أجرى الحوار معه في أثناء عودته الأخيرة إلى مصر، فمن المؤكد أن محمد محمد حسين سيخبره أنه اعتذر عن تجديد عقده مع تلك الجامعة، وأنه عاد إلى العمل في جامعته، جامعة الإسكندرية بعد سنوات عديدة من الإعارة إلى بيروت في جامعة بيروت العربية وإلى الرياض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وهذه المعلومة لو أن الحوار حصل فعلاً، لن يغفل ذكرها، ولن يغفل ذكرها لو كان يدري بها وقت كتابته الحوار المزعوم معه بعد وفاته!
وإن كان يقصد ذلك، فهذا ضرب من الاستحالة وفقاً لما رواه تلميذه الدكتور سعيد منصور عن اليوم الأخير في حياة محمد محمد حسين في الحوار الصحافي الذي أجراه معه أبو الحسن الجمّال في كتابه «أسئلة العصر الثقافية حوارات وذكريات»:
يقول الدكتور سعيد منصور في هذا الحوار الصحافي:
«المرحوم الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - له قصة فيما يخص وفاته، وكانت زوجته لا تفارقه في كل رحلاته ولا في البيت. أولاده يقولون: كان باستمرار لا تتحرك زوجته إلا إذا تحرك معها، ولكن حدث في يوم من الأيام أن زوجته أرادت أن تسافر وحدها إلى الرياض لزيارة ابنتها التي كان زوجها يعمل هناك، فذهب إلى محطة الرمل ليودعها وهي مسافرة وحدها هذه المرة، ورأته من الأتوبيس يبكي بالدموع لأول مرة في حياتهما، وهو يدور حول الأتوبيس يحاول أن يشاهدها، ولكنه لا يستطيع، لأن زجاج الأتوبيس يحجب الرؤية، ولكنها كانت تراه، وعندما أقلع الأتوبيس ذهب إلى جامع القائد إبراهيم ليصلي، وظل يمشي على الشاطئ يصلِّي في كل المساجد التي تقابله حتى وصل إلى منزله في (سان استيفانو). وبالمناسبة لم يكن يبيت لوحده في هذه الليلة، ولكن كان يبيت معه ابنه الدكتور طارق، وابنه الثاني الدكتور شريف. وكان الدكتور محمد محمد حسين يحرص على الاستيقاظ مبكراً ليصلي الفجر، وفي الصباح أخذ ولداه يبحثان عنه في حجرة نومه فلم يجداه، ثم في أرجاء المنزل الأخرى، لأن المنزل كان واسعاً - وقد زرته مراراً - فلم يجداه إلا في البانيو، لأنه كان لا يستطيع أن يتوضأ إلا فيه لظروفه الصحية، ووجداه قد أسلم الروح، فكانت صدمة كبيرة لقسم اللغة العربية ولكل من يعرفونه، وخصوصاً أنه قد جاء إلى القسم منذ بضعة أسابيع بعد أن ترك جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأراد أن يستقر في الإسكندرية فترة، ولكنها كانت فترة قصيرة».
نستخلص مما رواه حسين منصور عن اليوم الأخير في حياة محمد محمد حسين أمرين هما: أنه حينما عاد من الرياض إلى موطنه في الإسكندرية كان المرض قد أثخنه وأثقل عليه الحركة. وأن المدة الزمنية ما بين يوم وصوله إلى الإسكندرية ويوم وفاته فيها هي ثلاثة أسابيع.
إضافة إلى هذين الأمرين، هناك أمر ثالث، وهو يجب ألا ننسى أنه في عودته الأخيرة من الرياض إلى الإسكندرية كان هو وزوجته قد أخذا معهما من منزلهما في الرياض ما خفّ حمله من أغراضهما الأساسية، فما شأنه بالقاهرة - والحال كذلك كما نرى - ليزورها، ممضياً فيها أياماً أو أسبوعاً أو أسابيع. فيلتقيه أنور الجندي صدفة فيها، أو يلتقيه من خلال موعد متفق عليه سلفاً بينهما، ليجري حواراً معه.
إن محمد محمد حسين وزوجته أول ما حطَّت بهما الطائرة المغادرة من مطار الرياض في مطار القاهرة استقلا حافلة أو سيارة أجرة أو القطار، ليسافرا من القاهرة إلى منزلهما في حي سان ستيفانو في منطقة رمل الإسكندرية.
سيقول المحسن الظن بمصداقية أنور الجندي أنه في نص حواره الأخير مع محمد محمد حسين المنشور في مجلة «الأمة» الإسلامية الصادرة في قطر لم يحدد زمن الحوار، وإنما تركه مفتوحاً، فربما أن محمد محمد حسين زار القاهرة في أثناء إجازته السنوية التي يقضيها في منزله بالإسكندرية، في العام الذي سبق عام تركه لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فأجرى أنور الجندي الجزء الأول من الحوار معه، واتفقا أن يستكملا الجزء الأخير منه في زيارة أخرى له إلى القاهرة، كما روى الجندي ذلك في نص حواره معه.
وهذا دفاع أو تخريج يصعب الأخذ به، لأن أنور الجندي ليس كاتباً حَوْلياً يكبُّ على الإعداد لكتابة مقال أو تأليف كتاب حوْلاً بعد حول قبل إخراجه للناس، أو أنه يكتب مقالاً ويؤلف كتاباً حوْلاً إثر حوْل.
فقبل أن تنتشر مطاعم الوجبات السريعة أو (FAST FOOd) على الطريقة الأميركية في عدد من الدول العربية في أواخر السبعينات الميلادية، كان أنور الجندي منذ سنة مبكرة من هذا العقد يغمر سوق الكتاب الإسلامي وسوق المجلات الإسلامية بكتب ومقالات طبخهما في فرن (Fast Islamic books and articles).
وإذا أردنا مشاكلة مطعم كتابة المقالات وتأليف الكتب عند أنور الجندي بأحد المطاعم الأميركية السريعة، فإنه في عقد السبعينات الميلادية وفي عقدين تليا هذا العقد، كان - أسأل الله المغفرة له والصفح عنه - «كنتاكي» الإسلاميين بلا منافس.
وأكثر من ذلك، فأنا لا أصدق قول أنور الجندي في حواره المزعوم إنه قبل لقائه الأخير بمحمد محمد حسين كان قد عرفه منذ عشرين عاماً، وأنه كان بينها أحاديث مستفيضة ماضية... والجملة الأخيرة وضعها على لسان محمد محمد حسين لا على لسانه هو.
فبحسب اطلاعي على كتابات المصريين من تيارات شتى من أهل الأدب والفكر ومن أصحاب التوجه الإسلامي، وهي الكتابات التي تدخل جزئياً أو كليَّاً في نطاق الذكريات والمذكرات والسير الذاتية والتراجم، لم أجد ذكراً لمحمد محمد حسين إلا في كتابين، كتاب «أوراق العمر: سنوات التكوين» للويس عوض، وكتاب «أنور المعدّاوي» لعلي شلش.
يقول لويس عوض: «وكان من الطلبة النابهين في الكلية في دفعتي، أي من خريجي 1937 (عربي) الدكتور محمد حسين الذي أصبح أستاذاً للأدب العربي في جامعة الإسكندرية».
عبارة الطلبة النابهين كان محمد محمد حسين قد فسرها على نحو محدد في النبذة التي كتبها بخط يده على ظهر غلاف كتيبه «المتنبي والقرامطة» الصادر عن دار الرفاعي بالرياض عام 1981 فقال فيها: «وحصلت على الليسانس سنة 1937 من قسم اللغة العربية في الجامعة المصرية - وكذلك كان اسمها لأنها كانت الجامعة الوحيدة في مصر وفي البلاد العربية وقتذاك. وعينت معيداً في الكلية في السنة نفسها، وكلفت تدريس اثني عشر درساً أسبوعياً في السنة الأولى، وكانت هذه هي السابقة الأولى التي يعين فيها معيد في سنة تخرجه ويكلف بالتدريس».
يقول محمد عبد الحميد محمد خليفة في رسالته للماجستير: «دراسة النص الأدبي عند محمد محمد حسين» عن السنة التي تخرّج فيها محمد محمد حسين، «وفي هذه السنة كان يطبق نظام الامتياز لأول مرة، الذي كان يشترط ألّا يختلف الطالب في سنوات الدراسة الأربع وألّا يقل مجموعه عن 70 في المائة في كل السنوات وأن يؤدي في مادتين إضافيتين امتحاناً زيادة على المواد المقررة خلال العام، وكان محمد محمد حسين ثاني دفعته».
وأحال في هذه المعلومة إلى جريدة الأهرام العدد 17936. الصادرة بتاريخ 14 – 6 -1937 (نتائج امتحانات الدور الأول - كلية الآداب ص11. نتيجة الليسانس الممتازة - قسم لغة عربية).
وأضاف قائلاً في هذه الإحالة: «ومن الجدير ذكره أن د. حسن سيد خضر عون كان أول الدفعة، وكان محمد عبد الحميد سند الجندي ثالثها، وفي العام نفسه تخرج في قسم اللغة الإنجليزية د. لويس عوض».
في ملحقات كتاب علي شلش «أنور المعدّاوي» وتحت عنوان «يوميات» عرض المؤلف يوميات المعداوي وقبلها قدم معلومة عنها، وقدم مجموعة من الملحوظات مستمدة من قراءته لمحتوياتها وما يحف بها.
المعلومة هي - كما قال - : «جاءت هذه اليوميات في مفكرة جيب صغيرة (8X5، 11 سم) مكونة من 88 صفحة مسطرة، دوّن فيها المعداوي يوميات متصلة في الفترة من 6 مارس (آذار) إلى 14 أبريل (نيسان) سنة 1947. أي 42 يوماً».
سأقتطف من يوميات المعداوي يومه في 9 مارس.
يقول المعداوي عن يومه هذا: «نفسي هادئة مطمئنة في الصباح، تحدثت تليفونياً مع أستاذنا الجليل الخولي معتذراً عن طول غيابي عن لقائه، معلناً له عن رغبتي في لقائه في المساء بكلية الآداب، حيث يناقش رسالة الدكتوراه لمحمد حسين المدرّس بجامعة فاروق. سأتوجه في الساعة الخامسة إلى هناك للتسليم عليه ولمشاهدة المناقشة.
حضرت المناقشة في المساء... كان كل شيء يبعث على الملل، جو المكان وأيضاً الرسالة، الممتحن نفسه. جلست مع الأستاذ الخولي قليلاً بعد انتهاء المناقشة، ثم رجعت إلى الجيزة منقبض الصدر ضيّق النفس».
والخولي هو الشيخ أمين الخولي أستاذ المعداوي في قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول التي تخرج فيها عام 1945. والمعداوي عضو في جماعة «الأمناء» التي تنسب في اسمها إلى اسم الخولي الأول.
ورأي المعداوي في رسالة الدكتوراه لمحمد محمد حسين «الهجاء والهجاءون في الجاهلية وفي صدر الإسلام» ورأيه في الأستاذ الممتحن للرسالة ورأيه في المناخ الذي أحاط بمناقشتها، يجب أن ينظر القارئ إليه بأنه يصدر عن حالة نفسية معتلة. وهذا ما أشار إليه علي شلش في تقديمه ليومياته، لكن بعبارة أرفق من عبارتي. فرسالة محمد محمد حسين للدكتوراه كانت قيّمة وممتازة.
لكني استفدت من هذه اليومية المثقلة بالعطب النفسي معلومتين:
الأولى، هي تاريخ مناقشة رسالته باليوم والشهر والسنة، وهي المعلومة التي لم يذكرها محمد محمد حسين حين طبع رسالته في جزأين، ولا الذين كتبوا عنه.
الأخرى، هي أن الشيخ أمين الخولي هو المشرف على تلك الرسالة. وهي معلومة حرص على التكتم عليها مع حصول مناسبة كان يتحتم عليه ذكرها.
ففي الصفحة الأولى من حديثه في كتابه «حصوننا مهددة من داخلها» عن اعتراضه على بحث تغريد السيد عنبر «دراسة في أصوات المد في التجويد القرآني»، التي حصلت به على درجة الماجستير من قسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية سنة 1965، وتمكنه من إلغاء حصولها على هذه الدرجة العلمية، أقول ففي هذه الصفحة من حديثه هذا، بعد أن ذكر اسم المشرف عليه الدكتور حسن عون زميله في القسم ذاته، واسم عضوي المناقشة الآخرَين، الشيخ أمين الخولي والدكتور إبراهيم أنيس كتب هذه الحاشية:
«ثلاثتهم ينتمون إلى الأزهر، بدأوا دراستهم فيه حتى الثانوية العامة. ثم التحق أولهم بكلية الآداب فحصل على الليسانس من قسم اللغة العربية، وكان زميلاً لي في الدرس. ثم بعث إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه، فعاد بالدكتوراه وبزوجة فرنسية. والتحق ثانيهم بمدرسة القضاء الشرعي التي أنشأها سعد زغلول حين كان وزيراً للمعارف في وزارة صهره مصطفى باشا فهمي صديق الإنجليز الحميم... والتحق ثالثهم بمدرسة (دار العلوم) التي أنشئت أيضاً لتخريج مدرس عصري للغة العربية بعيداً عن ذلك (الأزهر) نفسه، ثم بعث إلى إنجلترا للحصول على الدكتوراه في الدراسات اللغوية (General Linguistics)، فحصل عليها وأصبح أول داعية لها في مصر».
في هذه الحاشية التعريفية التي حذفت منها موّاله المبغض للإمام محمد عبده، أستاذ سعد زغلول، والتي تجمع إلى النميمة الدينية، والنميمة الوطنية السياسية، والنميمة الاجتماعية، والنميمة الثقافية، ما دام أنه ذكر فيها أن حسن عون كان زميله في الدرس في جامعة فؤاد الأول، كان لزاماً عليه أن يذكر أن الشيخ أمين الخولي كان أستاذه في هذه الجامعة والمشرف على رسالته للدكتوراه فيها.
حسن عون هذا هو حسن سيد خضر عون، أول الدفعة حين طبق نظام الامتياز في كلية الآداب لأول مرة. وهو أستاذ جامعي كبير واسمه معروف عند المختصين والمعنيين بالدراسات اللغوية والنحوية، باسم الشهرة: حسن عون.
وغير بعيد أن محمد محمد حسين، النابه، اللوذعي، الألمعي، وغر صدره على حسن عون أن يكون الأول لا هو. وضغن عليه ابتعاثه إلى فرنسا. ونَفِس عليه عودته منها بالدكتوراه وبزوجة فرنسية. وهذا التحاسد بين بعض الأكفاء معروف ومشهور.
وفي حالة محمد محمد حسين، فإن هذه السخائم التي تراكمت على صدره في سنوات علمانيته، لم يفلح تحوله إلى الإسلامية في غسلها وتطهيرها. فتأمّل.
وكان من أثر سخيمة من هذه السخائم أنه في قسم اللغة العربية بكلية بجامعة الإسكندرية «لا يشجع أحداً بالقسم على السفر للدراسة بالخارج... والعجيب أنه عارض بالفعل بعض الأساتذة فيما يخص سفرهم للدراسة بالخارج». (راجع الحوار مع الدكتور سعيد منصور في الكتاب المذكور اسمه أعلاه).
أقول بهذا التفسير الشخصي لموقفه هذا، لأن موقفه هذا غير متسق مع مراحل دراسته وتعلمه: ما قبل الجامعي، والجامعي، والدراسات العليا. فهو ليس ابن التعليم الديني وليس ابن لغة واحدة. فتعليمه مدني، وهو يحسن القراءة بالإنجليزية. وللحديث بقية.