د. ياسر عبد العزيز
TT

مرحباً بكم في عالم «المُتفرج الرقمي»

قبل أسبوعين راج على عدد من مواقع «التواصل الاجتماعي» رسم كاريكاتيري مُوحٍ ومميز؛ حيث يصور هذا الرسم شخصاً يغرق في بحيرة، رافعاً يده وصارخاً بعنف «Help… Help»، أي «النجدة... النجدة...»، بينما يقف على شاطئ البحيرة مجموعة من خمسة أشخاص لا يهبّون لمساعدته، أو لإبلاغ الشرطة، أو لاستدعاء مشرفي الإنقاذ، وإنما يكتفون فقط بتصوير مشهد الغرق بهواتفهم المحمولة.
نحن نعرف ما سيجري لاحقاً عقب انتهاء هذه الواقعة المُتخيلة؛ إذ سيغرق هذا الشخص الذي طلب المساعدة ولم يحصل عليها بطبيعة الحال؛ لكن الأشخاص الخمسة الذين قاموا بتصويره سيكون بوسعهم أن يبثوا تلك الواقعة على حساباتهم الشخصية على «السوشيال ميديا»، وهو الأمر الذي سيعزز أعداد متابعيهم والمعجبين بمنشوراتهم، كما أن وسائل الإعلام «التقليدية» ستهرع لنقل تلك المشاهد المثيرة، وستذيعها على منصاتها، بعدما تجري عليها بعض المعالجات وفق سياساتها التحريرية.
لقد حصلنا بفضل تلك الجهود على قصة إعلامية مثيرة وشديدة الجاذبية، وسيكسب صُناع تلك القصة ومروّجوها الكثير من العوائد المالية والمعنوية على الأرجح؛ لكن هذا الشخص البائس الذي طلب المساعدة لم يحصل عليها أبداً... فقد مات، وسيضحى لاحقاً موضوعاً للكثير من المعالجات الإعلامية التي ستدر بدورها المزيد من العوائد.
ليست تلك قصة جديدة، وهي لا ترتبط حصراً بعالم وسائل «التواصل الاجتماعي»؛ لكنها حدثت وتم تحليل أبعادها مبكراً جداً، وتحديداً قبل نحو ستة عقود، حينما وقعت حادثة مقتل الأميركية الشابة كيتيش جنيوفيز أمام شقتها في نيويورك، في عام 1964؛ حيث طعنها شخص عدداً من الطعنات المميتة بحضور 38 شاهداً، لم يتدخل أي منهم لنجدتها، كما لم يبادر سوى شخص واحد بينهم بالاتصال بالشرطة.
سيأتي الباحثان في علم النفس الاجتماعي جون دارلي وبيب لاتاني لاحقاً بتفسير، وسينشران ورقة مُهمة في عام 1969 يتحدثان فيها عن «تأثير المُتفرج» Bystanders Effect، ومفاده أنه «كلما زاد عدد الأشخاص الذين يشهدون حدثاً كارثياً، قل احتمال قيام أي شخص منهم بأي شيء؛ لأنه سيعتقد أن شخصاً آخر سيفعل ذلك».
منذ السبعينات الفائتة لم يتوقف البحث في مفهوم «تأثير المُتفرج»؛ لكن الأوضاع تغيرت منذ انبلاج عهد «السوشيال ميديا» بتجلياتها المُذهلة؛ إذ بات لدينا مفهوم جديد يمكن تسميته «المُتفرج الرقمي» الذي لن يكتفي بمشاهدة وقائع الجريمة كما حدث في نيويورك قبل ستة عقود؛ لكنه سيقوم بتغطية الواقعة أو «استثمارها»؛ حيث سيصور ما يجري بهدف بثه حياً أو مُسجلاً على منصته الإعلامية الخاصة، وهنا سيصبح «مواطناً صحافياً» كامل الأركان.
في الآونة الأخيرة، حدثت وقائع صادمة وكارثية في الشارع المصري؛ لكن تلك الوقائع انتقلت بسرعة وسهولة فائقة عبر «السوشيال ميديا»، بحيث أمكن مشاهدتها في قارات العالم المختلفة والتفاعل معها والتعليق عليها.
وفي تلك المشاهد أمكن للملايين رؤية عريس يضرب عروسه بعنف شديد في الشارع أمام الناس والكاميرات، وحادث تحرش بالسائحات في موقع أثري مهم، وسائق متهور يسير عكس الاتجاه في طريق سريع مُعرضاً أرواح الناس وممتلكاتهم للخطر، وسيدة تضرب فتيات في وسيلة نقل عام بسبب اعتراضها على ملابسهن، واعتداء معلمة على تلميذة في فناء مدرسة بقسوة بالغة، ونحر طالبة جامعية بالشارع في وضح النهار، ومثلها الكثير من المشاهد المثيرة والصادمة في آن.
لكن الرابط بين معظم تلك المشاهد أن الذي صوّرها وبثها «ناشطون» على وسائل «التواصل الاجتماعي»، وأنها حققت ملايين المشاهدات، وبعضها أقام الدنيا ولم يقعدها بعد، بينما كان «تأثير المُتفرج» حاضراً بوضوح في كثير من تلك الحالات.
لا يحدث هذا الأمر في مصر وحدها، وإنما يتكرر حدوثه في عدد كبير من الدول العربية والأجنبية. ورغم أن البعدين النفسي والاجتماعي الكامنين وراءه باتا معروفين بفضل بحث دارلي ولاتاني الذي سبقت الإشارة إليه، فإن «السوشيال ميديا» أدت دوراً جديداً في هذا الصدد، بشكل عزز المغارم وفاقم الأخطار الناجمة عن عامل «تأثير المُتفرج».
بسبب طبيعتها الإشهارية الصارخة، وميل روادها الطاغي للتمركز في أقنيتها، وسخاء العوائد الممنوحة عبرها وفوريتها، باتت «السوشيال ميديا» أحد أهم العوامل المُكرسة والمُشجعة على شيوع مفاعيل «تأثير المُتفرج».
وعندما تتضافر العوامل الاجتماعية والسياسية التي تؤسس لـ«تأثير المُتفرج»، وتُغذي ذيوعه، مع آليات التمركز وتحقيق العوائد عبر «السوشيال ميديا»، سيكون لدينا عالم جديد ومُخيف في آن. وفي هذا العالم سيقع أي منا في ورطة أو يشهد كارثة عظيمة، بينما لا يتوقع من الآخرين سوى أن يسجلوا ما يحدث له بهواتفهم، ثم ينشروه على المنصات، ويستمتعوا بتحصيل العوائد.