علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

أنور الجندي و«أي كلام يا عبسلام»!

إجابتي عن السؤال الذي ختمت مقالي السابق به: لماذا أبقى محمد محمد حسين على الاستشهاد الأول بمفتتح محاضرة طه حسين، ولم يحذفه مثلما فعل بالاستشهاد الثاني بفقرة من مقاله؟ إجابتي هي: أن الاستشهاد الأول ذو دلالة في قضية أساسية تتعلق بخلاف جوهري – وفق تقسيمه – بين الفريق الذي يرى أن سبيل النهضة أو الإصلاح هو الأخذ بأساليب الحضارة الغربية، والفريق الذي يرى أن سبيل النهضة أو الإصلاح هو الاحتفاظ بالتقاليد الإسلامية والشرقية. هذه القضية الأساسية هي في التناقض الجذري في نظرتهما للدين، بين خفض له وتشبث به.
أما الاستشهاد الثاني الذي أورده رديفاً لاستشهاده بمقال عبد العزيز جاويش، فقد رأى أن يكتفي بإيراد ما قاله عبد العزيز جاويش في المؤتمر المصري سنة 1911. وكان من بين ما قاله في النص الذي نقله عنه «لقد سنّت لنا شريعتنا أن نأخذ بالأصلح الملائم للأزمنة والأمكنة؛ حتى لا يكون على الناس حرج ولا ضرار. بل رخصت أن يُعدَل عن النص، إذا ثبت ثبوتاً قاطعاً أن الضرورة توجب هذا العدول، وكانت المصلحة التي تنتج من اتباع النص أقل مما ينتجه هذا العدول». وكان جاويش في مقاله قد قدّم أمثلة لعدول النبي والصحابة عن قاعدة الشرع رعاية للأصلح. أقول قد رأى أن يكتفي بذلك ويستغني عن المثال المعاصر لما دعا إليه جاويش وتلميذه طه حسين من تقديم المصلحة على النص، في تحريم الزواج بالكتابيات الأوروبيات؛ وذلك لمصلحة اجتماعية وسياسية.
أي أن الاستشهاد الأول كان يتعذر عليه حذفه؛ لأنه المثال الوحيد المعبّر عن القضية التي يتكلم عنها، بخلاف الاستشهاد الثاني الذي رأى أن نصه النظري المدّعم بتطبيقات النبي وتطبيقات الصحابة يغنيه عن إيراد الدعوة إلى تطبيق معاصر في مثال تحريم الزواج بالكتابيات الأوروبيات. كما أن الاستشهاد الأول – بخلاف الاستشهاد الثاني – لن يفهم القارئ منه أن طه حسين في الأصل كان من فريق الاحتفاظ بالتقاليد الإسلامية، أو بحسب تسميته الأخرى من فريق حركة الإصلاح الإسلامي، أتباع مدرسة الإمام محمد عبده، وامتدادها عند عبد العزيز جاويش الذي يمثل التيار الوطني الديني. وهذا أمر – لشدة تحامله عليه – لا يريد لقارئه بعد أن نقّح الجزء الأول من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، أن يعرف به، وأن تكون معرفته به عن طريقه!
في الفصل الأخير من هذا الجزء «نزعات إصلاحية» كان قد قسّم زعماء النهضة فريقين: فريق يكافح الاحتلال، وفريق يطالب بالإصلاح. وفصّل في الحديث عن هذين الفريقين. وقسّم الفريق الأخير طائفتين: طائفة تدعو للأخذ بأساليب الأخذ بأساليب الحضارة الغربية، وطائفة تدعو إلى الاحتفاظ بتقاليدنا الإسلامية والشرقية.
وفيما يتعلق باستشهاديه الأول والثاني بطه حسين، كان قد قال في النسخة الأصلية طبعة عام 1956
«إلى جانب هذه الطائفة التي كانت تحاول النهضة بمصر وبالشرق وبالمسلمين عن طريق الأخذ بأساليب الحضارة الغربية التي أثبتت نجاحها وتفوقها».
وقال «ومما كتبه عبد العزيز جاويش في التوفيق بين الدين والحياة رأي جريء ألقاه في المؤتمر المصري سنة 1911، ينادي فيه بوجوب مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق الشريعة الغراء».
وفي النسخة المنقحة طبعة عام 1962 أورد هذين القولين بهذه الصيغة:
«إلى جانب هذه الطائفة التي كانت تحاول النهضة بمصر وبالشرق وبالمسلمين عن طريق الأخذ بأساليب الحضارة الغربية التي هي في زعمهم أكثر ملاءمة للعصر».
«ومما كتبه عبد العزيز جاويش في تدعيم هذه الاتجاه خطابه الذي ألقاه في المؤتمر المصري سنة 1911، ونادى فيه بوجوب مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق الشريعة الغراء».
المرة الأولى – كما قلت في المقال السابق – التي تعرض محمد محمد حسين لطه حسين بالنقد كانت في الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر». والمرة الثانية كانت في خمس مقالات من سلسلة مقالاته الأزهرية.
في المرة الأولى تناول ثلاثة من كتبه «مستقبل الثقافة في مصر، في الشعر الجاهلي، على هامش السيرة» بالنقد. وكان يغلب على نقده لها طابع النقد الديني. وفي المرة الثانية صعّد نقده الديني لطه حسين إلى طعن في دينه ووطنيته وعروبته مع استعداء السلطة الناصرية عليه.
إن دعوى أنور الجندي الزائفة بأن طه حسين اضطهد محمد محمد حسين وأبعده عن التدريس في جامعة الاسكندرية، أقامها على أن الأخير اختلف معه في رأي من الآراء. فلننظر في بعض ما قاله الأخير عن طه حسين في سلسلة مقالاته الأزهرية:
«ولكن اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية، وعلى رأسها طه حسين الذي تشهد كتبه أنه لم يكن إلا بوقاً من أبواق الغرب، وواحداً من عملائه الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير، يروّج لثقافتهم ويعظّمها، ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم».
«ذلك هو لُبّ الكتاب الذي أوحت به السفارة الأميركية لطه حسين، فترجمه بأموال العرب».
«وظنوا أن تجردهم من إسلامهم شرط لسلامة البحث وعلميته، كما زعم لهم طه حسين في كتابه (الشعر الجاهلي) الذي سيق بسببه إلى المحكمة».
هل يقول عاقل – ولا أقول منصف – إن هذه الأقوال تدخل – ولو من ممر ضيّق جداً - في باب «الاختلاف في الرأي»؟!
لعل ميّزة محمد محمد حسين في السجال الثقافي والفكري، أنه متسق مع أطروحته الإسلامية الأصولية؛ فهو لا يتهم الذين نصّب نفسه خصماً شرساً وعدوّاً مبيناً لهم – وهي أسماء كثيرة في الفكر الليبرالي العربي وأسماء معدودة في الفكر الإسلامي الحديث - بأنهم ضد «حرية الاختلاف في الرأي» وضد «حرية الفكر»، وضد «التسامح» وضد «حق الاختلاف وحق التعدد» وضد «الديمقراطية» إلخ...
ذلك لأنه بسبب تكوينه العلمي غير الغوغائي، يعلم أن شرعية ومشروعية كتاباته الإسلامية السجالية، وشرعية ومشروعية كتابه الأكاديمي «الاتجاهات الوطنية في الآدب المعاصر» بعد تنقيح جزئه الأول، عند نفسه وعند الإسلاميين، يقوم على إشراب العداوة لتلك المفاهيم ولسواها من المفاهيم والأفكار الغربية ولمتبنيها من العرب والمسلمين، ولمتبني الأطروحات الإسلامية العصرية المتأثرة بها. لذلك؛ فهو لا يلجأ إلى سخف المغالطة بالتمسّح بمفردات الليبرالية وبموجباتها، كما رفاقه الإسلاميين، مع أنهم إذا خلا بعضهم إلى بعض، يقطّعون أناملهم غيظاً منهما!
إن الذين كاشفهم محمد محمد حسين بعداوة دينية مدنسة وأساء إليهم هم كثيرون، فليس طه حسين وحده الذي قذفه في حياته بنيران العداوة ورماه بنبال الإساءة. ومن هؤلاء الكثيرين، زملاء له في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية - وأخص بالذكر محمد خلف الله أحمد الذي أساء له مرّات - ومع ذلك، فإنهم لم يرفعوا عليه شكوى لدى إدارة الجامعة. ولا أدري ما سبب ذلك: هل أعيتهم الحيلة أم لِسموٍ في أخلاقهم؟
الخلاصة، أن أنور الجندي كذب على طه حسين وعلى محمد محمد حسين وعلى قارئه. وكان قبلها بُعيد وفاة محمد محمد حسين قد كذب عليه وعلى مجلة «الأمة» الإسلامية القطرية وعلى قارئه.
فهذه المجلة نشرت موضوع غلاف بتاريخ رجب/ أبريل (نيسان)-1403-1983، عنوانه «الحوار الأخير مع محمد محمد حسين» مع رسم مكبّر لوجهه. هذا الحوار ادعى أنور الجندي أنه أجراه «أثناء زيارته للقاهرة، على أمل أن يتمَّ في زيارة أخرى، غير أن قضاء الله نفذ قبل أن يتمَّ الحوار». وكان قبلها مباشرة قد قال «وقد توفي إلى رحمة الله في ربيع الآخر 1403هـ/1983م»، في حين أن الرجل توفي، صبيحة يوم الجمعة، 9.‏بيع الأول 1403، الموافق لـ24ديسمبر (كانون الأول) 1982!
بدأ أنور الحوار بهذه الجملة «قلت للدكتور محمد محمد حسين – رحمه الله – في آخر لقاء معه:
اليوم، وبعد أن مضى عليك في الميدان نصف قرن (1933 - 1982)، وأنت تجالد في وجه التغريب، والشعوبية، والغزو الثقافي إزاء السموم الناقعات التي طرحها الدكتور طه حسين وغيره في طريق الأدب العربي، ما هو تقويمك لهذه المرحلة، وهل استطاعت أن تحقق شيئاً؟!
ولحبك الكذبة أن لقاءه به – بالتعبير التلفزيوني – لقاء حي، وأن المقابلة الصحافية إجاباتها شفاهية، وأن بينهما معرفة شخصية طويلة، قال «وابتسم الدكتور محمد حسين الذي فتح آفاقاً في مجال تصحيح المفاهيم، وتحرير الأدب العربي والثقافة الإسلامية، ابتسامة ذات معنى، فقد عرفته منذ عشرين عاماً وأنا على طريق مواجهة التغريب والغزو الثقافي، وانتفعت كثيراً برصيده الضخم في هذا المجال».
ثم مضى في كلامه معّرفاً به تعريفاً خاصاً، بعد أن عرّف به في مقدمة الحوار تعريفاً عاماً قصيراً، فقال «والدكتور محمد محمد حسين واحد من أبناء المدرسة الإسلامية الملتزمة، التي نشأت في أحضان حركة اليقظة الإسلامية، والتي حملت لواء (أسلمة) الآدب والثقافة في كلية الآداب على مدى خمسين عاماً، وتحريرها من الزيف والسموم التي صبغها بها الدكتور طه حسين وشيعته؛ أمثال: على عبد الرزاق، وأمين الخولي، وإبراهيم مصطفى، وهو رائد الأصالة في مجال الأدب شأنه شأن علي سامي النشار في مجال الفلسفة، وعبد القادر عودة في مجال الشريعة والقانون، ومحمود أبو السعود في مجال الاقتصاد، كل هؤلاء ردوا للإسلام اعتباره بعد أن طواه التغريب زمناً في الدراسات الجامعية، فلهم أجرهم عند ربهم».
ولتعزيز الادعاء أن بينهما معرفة شخصية طويلة تخللتها مسامرات فكرية عديدة، جعل محمد محمد حسين يبدأ الإجابة عن السؤال الذي طرحه عليه، بالقول «لعلك تعرف من أحاديث بيننا مستفيضة ماضية أن التغريب قد كبّل الفكر الإسلامي بسلاسله...».
وكان في مقدمة الحوار افتتح التعريف العام به بقوله «الدكتور محمد محمد حسين رئيس قسم الأدب واللغة العربية بجامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية وأستاذ الأدب العربي في جامعة الإسكندرية منذ 1933م، وهو يجاهد في سبيل مفهوم إسلامي أصيل للأدب العربي».
مع أن أنور الجندي قرأ لمحمد محمد حسين في الستينات، وهذا نعرفه من البورتريه الذي قدمه عنه في كتابه «مفكرون وأدباء من خلال آثارهم»، ومع أنه تأثر بمنحاه الهدمي في الكتابة الإسلامية ابتداء من منتصف السبعينات، إلا أنه يجهل معلومات أولية عنه تخص سيرته التعليمية، وتخص مساره الآيديولوجي وما طرأ عليه من تحول حاد. ففي عام 1933، كان محمد محمد حسن طالباً في السنة الأولى في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة ولم يكن أستاذ الأدب العربي في جامعة الإسكندرية. وفي هذا العام إلى عام 1956، وهو العام الذي نشر الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» كان علمانياً ولم يكن إسلامياً. ففي عام 1956، ظهر بصورة الكاتب الإسلامي، وبهذا يكون ابتداءً من هذا العام إلى عام 1982، عام وفاته، أمضى حياته في التوجه الإسلامي ستة وعشرين عاماً وليس نصف قرن.
جهله بمثل هذه المعلومات، يجعلني أقطع بأنه يعرف محمد محمد حسين «من خلال بعض آثاره» فقط.
إن أنور الجندي لو كان قد قرأ كتابه «الهجاء والهجّاءون في الجاهلية» وكتابه «الهجاء والهجّاءون في صدر الإسلام» وكتاب «أساليب الصناعة في شعر الخمر والأسفار» لما كان في تعريفه العام به حشر «أبناء المدرسة الإسلامية الملتزمة» و«أحضان حركة اليقظة الإسلامية» في نشأته الجامعية وفي تكوينه الأكاديمي، وهي النشأة التي كانت نشأة ليبرالية وهو التكوين الذي كان تكويناً علمانياً خالصاً.
هناك معلومات قالها عن محمد محمد حسين يعلم أنها غير صحيحة، كمجاهدته في سبيل مفهوم إسلامي أصيل للآدب الغربي، وحمله لواء أسلمة الأدب والثقافة، وأنه رائد الأصالة في مجال الآدب.
ولتحديد مسمى لأقواله هذه سأستعين بخدمة منهجية جليلة أسدتها الثقافة المصرية مشكورة إلى الثقافة العربية المعاصرة لا تحتاج مع توفرها لإجهاد الذهن لاجتراح مسميات جديدة. فبحسب تصنيفها «الموضوعاتي العنواني» تسمى تلك الأقوال «أي كلام يا عبسلام». وللحديث بقية.