د. ياسر عبد العزيز
TT

ما بين أينشتاين ومارك زوكربيرغ!

سيُمكن أن نوجه الكثير من الانتقادات لشركات التكنولوجيا العملاقة المسؤولة عن تشغيل ما تُسمى «وسائط التواصل الاجتماعي»، لكن لن يكون من بين تلك الانتقادات أبداً ما يصفها بقلة الحيلة أو تراخي الهمة.
فمنذ أطلّت تلك الشركات على عالمنا وهي تنجح دوماً في تحقيق هدف عَزَّ إدراكه على كثيرين؛ فهي بارعة جداً في تشخيص احتياجات الناس وتقصي نوازعهم، وهي قادرة عادةً على استباق تطلعاتهم بخطوات واسعة، فضلاً عن اجتراح الأدوات الفائقة التي تُعيد تصميم عوالمهم.
في العام 2010 قال مارك زوكربيرغ إن «عهد الخصوصية انتهى»؛ حيث كان آنذاك يُشخص ما ظهر من ميل قطاعات عريضة من مستخدمي الوسائط «السوشيالية» لمشاركة خصوصياتهم مع الآخرين، أو محاولة استغلالها والارتزاق منها، قبل أن يُمعن في تهيئة أنموذج الأعمال الذي يستخدمه من أجل تسليع تلك الخصوصية، وتحقيق الأرباح الضخمة لقاء بيعها واستخدامها.
يقول زوكربيرغ إن الناس ستظل تبحث عن الألفة والتسرية، وإنهم مغرمون بالتعبير عن أنفسهم ومشاركة الآخرين ما هم عليه، ولذلك فهو سيمضي في استثمار ذلك النزوع، فتتضخم أرباح «فيسبوك» وتتضاعف قيمته السوقية، قبل أن ينتقل إلى مفهوم «ميتا فيرس»، ويُبدل اسم العلامة التجارية لمجاراة الميول الطاغية المتجددة.
كان كاتب الخيال العلمي البريطاني آرثر سي كلارك (1917 - 2008) هو من قال إن «أي تقنية متقدمة بما فيه الكفاية لا يمكن تمييزها عن السحر»، وهو محقٌّ في قوله هذا؛ فكل اختراع تقني جديد يتسم بالبراعة والجاذبية ما زال قادراً على إبهار مستخدميه كأنه اختراق سحري للنواميس والأعراف المستقرة.
ويبدو أن جديد زوكربيرغ «ميتا فيرس» يستحق هذه المنزلة باقتدار؛ فقد تم رصد المليارات لتطويرات تقنية استهدفت الوصول إلى مُنتج جديد سيُشكل صرعة عالمية، يمكن أن تسحب البساط من تحت أقدام الوسائط الرائجة حالياً.
سيكون «ميتا فيرس» عالماً موازياً كامل الأركان، وسيسحب قدراً لا بأس به من الزخم الذي تعرفه الحياة المحسوسة، وينقله، بمؤثرات وعوامل جذب مُغرية، إلى عالم افتراضي يشكل طريقاً ثالثاً بين الملموس واقعاً والمُدرك رقمياً. وسيجري هذا عبر خليط من الأدوات المُتمثلة في نظارات الواقع الافتراضي والواقع المُعزز والسترات الحساسة والقفازات التي تنطوي على أجهزة استشعار، بحيث يتفاعل المُستخدم مع عالمه الافتراضي الذي يتحكم في تصميمه، بما يُمكّنه من إدراك المؤثرات الحسّية كإحساس السقوط في الماء، أو تلقي اللكمات، أو الشعور بالوخز وحرارة التلامس.
يحاول زوكربيرغ أن يُغري زبائنه بمُنتجه الجديد، فيقول ببساطة: «سيكفي حتى التفكير بحركةٍ ما لكي تصبح واقعاً»، وهو في تصميمه وقدرته على اجتراح تلك الكيفية سيتجاوز المئات من أساطين فكر الخيال العلمي وأدباء الواقعية السحرية المرموقين، وسيجلد ضعفهم الذي أبقى مغامراتهم في حيز السياحة العقلية، وأبعدها عن لمس الواقع والتجسد الحسي.
تنطلق دراسة الجدوى التي تأسس عليها هذه المشروع من يقين في الحصول على نحو مليار مستخدم خلال عقد واحد، وبلوغ حجم أعمال بمئات المليارات من الدولارات، وتوفير ملايين الوظائف لمبدعين ومبتكرين ورواد في مجال تكنولوجيا المعلومات.
لكنّ الأخبار السيئة لا تترك الساحة خالية لتلك الجيدة والمُبهجة في الأحوال كلها؛ إذ يبدو أن «ميتا فيرس» الذي يُترجَم على أنه «العالم الماورائي»، سيُطبق أنموذج الأعمال الرديء نفسه الذي استخدمه «فيسبوك» وصنع به أسطورته.
لقد بات لدينا مُنتج من منتجات «الميتا فيرس» يجسد هذا التفوق وينطوي على تلك الخيبة في آن؛ والمُنتج، الذي انطلق أخيراً اسمه «عوالم الأفق» «Horizon Worlds)، وهو نجح في جمع 300 ألف مستخدم في ثلاثة أشهر.
تقول «ميتا» إنها تريد لـ«عوالم الأفق» أن يكون «بيئة آمنة محترمة»، وتحض المستخدمين على «اتباع السلوكيات المرغوبة»، لكنّ التجارب الأولى أظهرت إخفاقاً في تحقيق هذا الهدف.
وفي الأسبوع الماضي، قالت «مجموعة مراقبة الشركات غير الربحية»، التي خصصت جهوداً وموارد بحثية لتقصي التفاعلات على «عوالم الأفق»، إنه «استضاف بعض أسوأ أنواع المحتوى، وأظهر المتفاعلون عبره قدراً ضئيلاً من الانضباط الأخلاقي، حتى إن عمليات تحرش واغتصاب افتراضي جرت لبعض مستخدميه»، بينما لم تفلح إعدادات الأمان في كبح الميل الحاد أحياناً إلى التنمر والبلطجة وإساءة التصرف.
لكن الإشكال الأكبر لا يكمن في الانفلاتات والسلوك الحاد وانتهاك الخصوصية فقط؛ إذ يحذّر باحثون من مخاطر نفسية عميقة يمكن أن تضرب المتفاعلين، الذين قد يخسرون واقعهم لصالح عالم مُصطنع، وهو أمر سبق أن حذر منه ألبرت أينشتاين، حين قال: «أخشى اليوم الذي ستتجاوز فيه التكنولوجيا تفاعلنا البشري، لأنه سيكون في العالم يومئذ جيل من البلهاء».