ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

«المثقفون الوشاة»!

«المثقفون الوشاة» كانوا أشد على المتنبي العظيم من طعنة فاتك بن أبي جهل الأسدي، فاتك كان مجرد أداة لاغتيال المتنبي... القاتلون الحقيقيون تواروا خلف الستار، وتركوا دم المتنبي هدراً يسفحه الدهماء وحثالة المجتمع. قدرُ المتنبي العظيم أن يسقط غِيلة وبعنوان قصيدة هامشية في مسيرته الناصعة بروائع الشعر العربي...
كان المتنبي نجماً ساطعاً في سماء الأدب، وكان متميزاً في سبكه للشعر، وكان يتقدم أقرانه ويتفوق عليهم. ولذلك كرهوه، وناوؤه، وعملوا على إفساد العلاقة بينه وبين الحاكم. فأوغروا صدر سيف الدولة عليه، وعمل الكتبة والمثقفون وممتهنو الأدب بالوشاية بالمتنبي، والتحريض عليه، وتشويه صورته أمام السلطة، حتى نجحوا في شق العلاقة الوطيدة التي كانت تربط المتنبي بسيف الدولة، ودفعوا شاعر «الخيل والليل والبيداء تعرفني» الذي كان يقول «إذا قلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا» للافتراق عن حكومته التي أحب، فهاجر إلى مصر، دون أن يحمل ضغينة أو إساءة لحاكمها سيف الدولة.
ولذلك حين غادر مصر ناقماً على كافور لم يشمت به سيف الدولة، بل بعث إليه رسالة بخط يده يدعوه للعودة إلى حلب، وكان وقتها في الكوفة، فنظم المتنبي قصيدته: «هِمتُ الكِتابَ أَبَرَ الكُتُب/ فَسَمعاً لِأَمرِ أمير العَرَب/ وَطَوعاً لَهُ وَاِبتِهاجاً بِهِ/ وَإِن قَصَرَ الفِعلُ عَما وَجب/ وَما عاقَني غَيرُ خَوفِ الوُشاة/ وَإِنَ الوِشاياتِ طُرقُ الكَذِب».
لقد سطر المتنبي نحو ثمانين قصيدة في الفترة التي قضاها في كنف سيف الدولة هي أكثر شعره جزالة وخصوبة، وأجمل ما أنتجه العرب من عيون الشعر، فماذا كان يقول الوشاة لسيف الدولة عن المتنبي...؟، كانوا يقولون: إن المتنبي يأخذ أكثر مما يستحق من العطاء: «لو فرقت نصف ما تعطيه على عشرين شاعراً لمنحوك إنتاجاً شعرياً أكثر!». كان أولئك «المثقفون الوشاة» يتعاملون مع الشاعر المبدع كما يتعاملون مع بقرة تنتج الحليب! وكان بلاط الحكم لدى سيف الدولة يغص بمثل هؤلاء الأدباء والشعراء والكتاب... لكن أين هم؟ ومن الذي صنع مجداً لسيف الدولة؟ المتنبي، أم ذاك الغثاء؟ لذلك كان المتنبي يرد عليهم مخاطباً سيف الدولة:
«أعيذها نظرات منك صادقة/ أن تحسب الشحم في من شحمه ورم». كان الوشاة والحساد يشيرون لسيف الدولة بأن المتنبي يبني مجده الشخصي، وأن قصائده مشحونة بالكبرياء وإظهار مواهبه... لكنهم غفلوا عن أن ذلك العنفوان اللغوي منح أشعار المتنبي في سيف الدولة طاقة للخلود لا تفنى. الحسد والضغينة والكراهية من أمراض المثقفين وأهل الأدب، قديماً وحديثاً، هناك من يريد احتكار السلطة ومؤسسات الدولة والفضاء العام، وهناك فريق من الانتهازيين والوصوليين الذين يعملون على إبعاد منافسيهم، وإفساد علاقتهم بالمؤسسات، وممارسة التحريض والتشويه. دور المثقف أن ينتج مناخاً صحياً وحراً للإبداع، لا أن يفسده بالدسائس والمكايدات، وبث الشحناء والكراهية. لقد واجه المتنبي - قدر ما استطاع - توحش الخصوم وكانوا - للأسف - من نخبة المجتمع الثقافي، وكان بينهم الشاعر أبو فراس الحمداني، وقد واجههم في مجلس سيف الدولة بقصيدته الشهيرة:
وَاحَر قَلْباهُ ممنْ قَلْبُهُ شَبِمُ
وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِمُ حُباً قَدْ بَرَى جَسَدي
وَتَدعي حُب سَيفِ الدوْلة الأُمم
ويبرز المتنبي فنه في وجه حساده قائلاً:
وَمَا الدهْرُ إلا مِنْ رُواة قَصائِدي
إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدهرُ مُنشِدَا
فَسَارَ بهِ مَنْ لا يَسيرُ مُشَمِراً
وَغَنى بهِ مَنْ لا يُغَني مُغَرِدَا
أجِزْني إذا أُنْشِدْتَ شِعراً فإنمَا
بشِعري أتَاكَ المادِحونَ مُرَدَدَا
وَدَعْ كل صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنني
أنَا الطائِرُ المَحْكِي وَالآخَرُ الصدَى
ظل المتنبي حتى النهاية يشتكي من الحساد: «ماذا لقيتُ من الدُنيا وأعجبه/ أني بما أنا شاكٍ منهُ محسودُ».