علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

عدوانيات محمد محمد حسين

أوضحت في المقال السابق بطلان دعوى أنور الجندي بأن طه حسين اضطهد محمد محمد حسين في جامعته، جامعة الإسكندرية، وسأستكمل في هذا المقال الرد على كذبته هذه.
علل أنور الجندي كذبته هذه بأن طه حسين إن اختلفت معه في رأي من الآراء، فإنه سيضطهدك ويبعدك عن الجامعة التي تدرس أو تدرِّس فيها!!
لم يروِ محمد محمد حسين في كل ما كتبه أنه اختلف مع طه حسين في رأي من الآراء، في أثناء دراسته الجامعية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) الممتدة من عام 1933 إلى عام 1937، ولا حينما عيّن معيداً في هذا القسم ابتداءً من هذا العام، ولا في أثناء إشراف طه حسين على رسالته للماجستير (صنّاجة العرب، أعشى قيس) في العام الدراسي (1939 – 1940)، ولا حين انتدب عام 1940 مدرساً بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بالإسكندرية، وكانت وقتذاك تابعة لجامعة فؤاد الأول بالقاهرة، ولا حين نقل إلى هذه الكلية عام 1942 بعد أن أنشئ منها ومن كلية الحقوق ومن كلية الهندسة مع إضافة كليات جديدة جامعة مستقلة سُميت جامعة فاروق الأول (جامعة الإسكندرية)، ولا حين كان يعد لرسالة الدكتوراه عن الهجاء والهجائين في الجاهلية وفي صدر الإسلام التي قدمها في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول في 9 مارس (آذار) عام 1947، ولا حين شغل كرسي الأستاذية للأدب الحديث في جامعة الإسكندرية (هكذا صار اسمها بعد ثورة يوليو/تموز 1952) عام 1954 بعد أن أنجز الجزء الأول من كتابه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر – من الثورة العرابية إلى قيام الحرب العالمية الأولى).
في رسالة محمد محمد حسين للدكتوراه عن الهجاء والهجائين في الجاهلية وفي صدر الإسلام قفز على مسألة كانت مهمة في ذلك الوقت بعد الزوبعة التي أثارها كتاب (في الشعر الجاهلي)، وهي تناول مسألة صحة الشعر الجاهلي، فهل فعل ذلك لكيلا يختلف مع أستاذه طه حسين في الرأي، لعظم توقيره له؟!
صلة طه حسين بكلية الآداب بالإسكندرية في الوقت الذي كانت فرعاً من جامعة فؤاد الأول أنه هو الذي أنشأ أول قسم فيها، وهو قسم اللغة العربية عام 1938، وصلته بجامعة فاروق الأول (جامعة الإسكندرية) أنه انتدب من وزارة المعارف أول مدير لها عام إنشائها عام 1942، ثم أحيل إلى التقاعد عام 1944.
في عام 1934 عاد طه حسين إلى جامعة فؤاد الأولى وتولى مرة ثانية عمادة كلية الآداب فيها إلى عام 1939، فهل هو الذي انتدب تلميذه محمد محمد حسين مدرساً بكلية الآداب بالإسكندرية عام 1940، وكان في هذا العام منتدباً للعمل مراقباً للثقافة في وزارة المعارف؟ وهل هو الذي سهل نقله من جامعة فؤاد الأول إلى جامعة فاروق الأول مع إنشائها عام 1942؟
في عام 1950 أخرج محمد محمد حسين الطبعة العربية لديوان الأعشى لسد – كما قال – بعض وجوه النقص في طبعته الأوروبية التي لم تسلم منها على ما بذل في إخراجها من جهد كبير. وكان الناشر مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز في القاهرة.
أخرج هذا الديوان تحت عنوان (ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس) شرح وتعليق. مع مقدمة مستفيضة عن حياة هذا الشاعر وعن فنه الشعري.
في مقدمة هذه الطبعة قال: «ترجع صلتي به إلى سنة 1934، حين كنت طالباً في قسم اللغة العربية بجامعة فؤاد، فكلفت بكتابة بحث عنه، فيما يكلف به الطلبة من بحوث. فلما تخرجت في الكلية اخترته موضوعاً لرسالة تقدمت بها سنة 1940 للحصول على درجة الماجستير بإشراف أستاذي الدكتور طه حسين بك، فكان لتوجيهه أثر كبير في تقريب الشاعر من نفسي وفي اتخاذ العصر الجاهلي ميداناً لدراستي المستقبلة».
في عام 1968، أعاد إصدار ديوان الأعشى مرة أخرى. وكانت جهة النشر المكتب الشرقي للنشر والتوزيع ببيروت. المقدمة هي نفسها مقدمة الطبعة الأولى لكن مع بعض الإضافات وحذف واحد.
الإضافات هي:
استفتاح المقدمة بدعاء ديني هذا نصه: «الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما توفيقي إلا بالله، وبعد».
جملة «هذه هي الطبعة الثانية».
كتب فيها ما يقرب من السطرين قال فيهما: «ظهرت طبعته الأولى منذ ثمانية عشر عاماً. وقد أعدت النظر فيها وأكملت ما بدا لي من وجوه النقص، بعد أن وقعت على مخطوطة جديدة من الديوان، استعنت بها على إكمال بعض الفجوات التي جاءت في الطبعة الأولى».
وضع هامشاً للقول السالف قال فيه موضحاً: «لم تكن هذه المخطوطة تحت يد جاير حين نشر الديوان، وهي من مخطوطات المكتبة المتوكلية اليمنية تحت رقم 82 أدب. وهي مخطوطة غير دقيقة لم يذكر اسم جامعها ولا شارحها. وكثير مما جاء فيها من القصائد واضح الخطأ في نسبته للأعشى. كما أن كثيراً من القصائد الصحيحة النسبة للأعشى غير موجودة فيها. لذلك لم أعتمد عليها إلا في إكمال الفجوات التي وردت في الطبعة الأوروبية كلما تيسر ذلك».
جاير هو المستشرق الألماني رودلف جاير Rudolf Gayer الذي ذكر محمد محمد حسين في مقدمته أنه نشر ديوان الأعشى للمرة الأولى سنة 1928.
أما الحذف، فلقد حذف ما اقتبسته من كلامه عن تاريخ صلته بالأعشى وكيف بدأت. وإشراف طه حسين على رسالته للماجستير وأثره الكبير في تقريب الشاعر الأعشى من نفسه وفي اتخاذه العصر الجاهلي ميداناً لدراسته المستقبلة.
وكان قبلها بما يدنو من عشر سنوات حين أصدر كتابه (أساليب الصناعة في شعر الخمر والناقة بين الأعشى والجاهليين) في طبعته الأولى الصادرة عن منشأة المعارف بالإسكندرية عام 1960، كتب مقدمة له بتاريخ 13/11/1959، أوضح فيها أن هذا الكتاب هو فصلان من رسالته للماجستير. رسالته للماجستير التي أنجزها عام 1940 بقيت مخطوطة لم تطبع في كتاب إلى الآن. في هذا الإيضاح تعمد أن يغفل معلومة مناسباً ذكرها في هذا المكان، وهي أن طه حسين هو الذي أشرف على هذه الرسالة، وهي المعلومة التي سبق له أن ذكرها في شرحه لديوان الأعشى وتعليقه عليه في طبعة عام 1950 التي هي طبعة نادرة، فالمتوفر هو الطبعة الثانية من هذا الكتاب.
إن المخبوء في مقدمة هذا الكتاب الذي لم يصرح به محمد محمد حسين أن رسالته للماجستير (صناجة العرب، أعشى قيس) وهو يعدها وبعد أن أنجزها عام 1940، لم يكن ينوي قط أن ينشرها في كتاب مطبوع، لسبب فني منهجي يخصه وحده. فلقد ادخر جزءاً منها لإعادة نشره في القسم الأول من رسالته للدكتوراه (الهجاء والهجاءون في الجاهلية) وهما موضوعا (الهجاء الاجتماعي) الذي كان مثاله (الحطيئة)، و(الهجاء السياسي) الذي كان مثاله (الأعشى).
فهذه الرسالة بعد إنجازها بأشهر قليلة بادر في قسمها الأول إلى نشرها في عام 1947، ونشر قسمها الثاني (الهجاء والهجاءون في صدر الإسلام) عام 1948.
وادخر جزءاً آخر منها لنشره في (ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس). وهذا الجزء الآخر هو المقدمة المستفيضة التي تكلم فيها عن حياته وفنه الشعري.
الملحوظة الأخيرة تنبه لها مبكراً صالح أحمد العلي في المؤتمر العاشر الذي عقد في بيروت في مايو (أيار) من سنة 1960، وكان موضوعه (ما أسهم به المؤلفون العرب في المائة سنة الأخيرة في دراسة الأدب العربي) الذي تعقده هيئة الدراسات العربية في الجامعة الأميركية في بيروت كل سنة، وكان موكلاً له حصر الكتابات المنشورة عن الأدب في العصر الجاهلي.
يقول هذا المؤرخ في بحثه: «أما الأعشى فكان موضوع رسالة نال بها محمد محمد حسين شهادة الماجستير من القاهرة سنة 1940 بعنوان صناجة العرب، ولم تطبع ولعلها أو معظمها ضمن المقدمة الطويلة التي نشرها مع ديوانه».
لكنه لم يتنبه للملحوظة الأولى التي قلتها، وهي ما يمكن تسميتها بالادخار الأول الذي أعاد محمد محمد حسين استعماله في رسالته للدكتوراه، رغم أنه في بحثه أشار إليها بقوله: «ونشر محمد حسين رسالته عن الهجاء والهجّائين في العصر الجاهلي». لكن من الواضح لي أنه لم يقرأها، إذ لا يوجد عنها في قسمها الأول سوى هذه الإشارة المقتضبة. فلو كان قد قرأها فلن يفوته إزجاء الملحوظة الأولى التي ذكرتها.
وعليه، فإن ملحوظته لم تكن دقيقة، فمقدمة محمد محمد حسين الطويلة عن حياة الأعشى وعن فنه الشعري في (ديوان الأعشى الكبير، ميمون بن قيس) لم تكن هي كل رسالته للماجستير (صناجة العرب، أعشى قيس)، ولا هي معظمها. وهو معذور بأنه لا يعلم بأمر الفصلين اللذين استله منهما صاحب الرسالة ونشرهما في كتابه (أساليب الصناعة في شعر الخمر والناقة بين الأعشى والجاهليين)، لأن هذا الكتاب صدر في بحر العام الذي قدم فيه بحثه في المؤتمر العاشر.
أبحاث هذا المؤتمر جمعت في كتاب عنوانه (الأدب العربي في آثار الدارسين) صادر عام 1961، قدم له نبيه أمين فارس، رئيس هيئة الدراسات العربية في الجامعة العربية الأميركية ببيروت.
في المنتصف الأخير من الخمسينات الميلادية طرأ على محمد محمد حسين تحول ذهني عاصف، جرفه إلى اتباع أسلوب العدوانية الدينية والعدوانية الوطنية السياسية والعدوانية الثقافية العقائدية. ومن المفارقات العجيبة أنه نشر فصلين من رسالته للماجستير، وهما فصلا شعر الخمر وشعر الناقة في ظل هذا التحول الديني المتزمت والمتطرف، التي لم يكن في الأصل يريد أن يفردها كلها أو بعضها في كتاب مطبوع، للسبب الادخاري الذي تستخدم فيه المادة أكثر من مرة في الأطروحة الأكاديمية وفي كتاب حر، الذي أمطنا اللثام عنه في السطور السالفة.
في مقدمة كتابه (أساليب الصناعة في شعر الخمر والناقة بين الأعشى والجاهليين) قدم لنا تفسيراً نصفه صادق والنصف الآخر غير صادق.
النصف الصادق هو قوله عن بحثه الذي حصل به على درجة الماجستير: «وإنما حفزني إلى نشره الآن بعد مضي ذلك الزمن الطويل، أن بعض الباحثين قد نقلوا عنه ونسبوا ما نقلوه إلى أنفسهم، وربما شوهوا ما نقلوه أو اقتضبوه لذلك رأيت ــ رداً على هؤلاء، وتعميماً للنفع به، إن كان ــ أن أنشر هذين الفصلين في الصورة التي قدمتهما بها ضمن ذلك البحث يومذاك».
ولأكون أكثر تحديداً، فإن الصدق ينحصر في السطر الأول من قوله. فالتشويه والاقتضاب في النقل منه فيه تزيّد أخلاقي ومماحكة. وتعميم النفع كذلك فيه هذا الأمر، فهو أولاً وأخيراً كان ينتصر لنفسه.
النصف غير الصادق هو قوله مكملاً الجملة السابقة: «مكتفياً دون سائره، بعد الذي نشرته عن الأعشى في كتاب (الهجاء والهجاءون في الجاهلية) وفي مقدمة (ديوان الأعشى الكبير).
وأظن أنني قد أبنت أن «سائره» كان أعاد نشره في جزء منه في الكتاب الأول الذي هو القسم الأول من أطروحته الأكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه، وأعاد نشر جزء منه آخر في الكتاب الثاني الذي هو كتاب حر.
وهو غير صادق، لأنه بعد نشره فصلين من رسالته للماجستير في كتاب مستقل، لم يبقَ منها مادة غير منشورة سوى مقدمتها. وللحديث بقية.