علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

وثبة البهبيتي المغربية «من فوق الهوّة اللبنانية البشعة»!

في عام 1998 صدر عن دار المنارة بجدة كتاب في التراجم لأحمد العلاونة اسمه (ذيل الأعلام). وفي عدد 1 أكتوبر (تشرين الأول) من مجلة (الهلال) في العام نفسه كتب محمود الطناحي مجموعة من الاستدراكات الدقيقة والمفيدة على تراجمه في هذا الكتاب تحت عنوان موح وجذاب، هو (ذيل الأعلام ومغالبة الهوى!).
الاستدراك الذي يهمنا في موضوعنا هو قوله: «في ص211 ذكر في ترجمة نجيب البهبيتي أنه مغربي، والصحيح أنه مصري، وقصته طويلة. وفيها جانب مأساوي. وخلاصة أمره أنه أُخرج من الجامعة المصرية، في أوائل ثورة يوليو، بقرار مما كان يسمى يومئذ لجان التطهير، فخرج إلى المغرب، وهناك وجد أرحبَ دار وخير ناس، فدرّس هناك بجامعة محمد الخامس، حتى وافته المنية بالرباط».
الذي أوهم أحمد العلاونة أن نجيب البهبيتي مغربي أنه رأى مؤلفاته صادرة في المغرب، فظن أنه مغربي. ومؤلفاته منها ما ألّفها في المغرب ومنها ما أعاد طبعها في المغرب. وما أعاد طبعها في المغرب يسميها (الطبعة المغربية). وله في هذه التسمية تفسير يجيش بالغلِّ على الناشرين اللبنانيين!
في طبعة كتابه (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري) الصادرة عام 1982، كتب في مقدمتها المؤرخة بالتاسع من سبتمبر (أيلول) عام 1981، «لقد طبع هذا الكتاب في بيروت أكثر من عشر طبعات باسم طبعة واحدة، أو طبعتين، ولذا فإني عاجز عن القطع برقم هذه الطبعة، ولذا فإني سأضرب عنها صفحاً، وأدعو هذه الطبعة بـ(المغربية) وصلاً لها بالطبعتين المصريتين الأوليين لتنتظم بهذه سيرة (سيادة القانون) بعد وثبته الجبارة من فوق هذه الهوّة اللبنانية البشعة»!
كتابه هذا الذي هو رسالته للدكتوراه صدر عن مطبعة المصرية عام 1950، وصدر في طبعته الثانية مطبعة السنة المحمدية ومكتبة الخانجي عام 1961، وصدر في طبعته الثالثة عن دار الكتاب العربي ببيروت ومكتبة الخانجي بالقاهرة عام 1967، وصدر في طبعته الرابعة عن دار الفكر ببيروت ومكتبة الخانجي بالقاهرة عام 1970.
مقدمة طبعة هذا الكتاب التي صدرت عام 1982، والتي سماها (الطبعة المغربية) تزفر من الغضب على الناشرين البنانيين وعلى ثورة 23 يوليو (تموز) 1952. وقد كتبها وهو منتفخ الأوداج واللغاديد، كاشراً عن نابه مبدياً ناجذه من سطورها الأولى.
ويعمّم فيقول: «فالناشرون اللبنانيون... كل غصب عندهم حلال، وكل كسب عندهم مباح. والأمور تمضي عندهم في النشر على قانون: خذ ما شئت، واغصب ما استطعت ما دام من تسطو عليه لا يحميه في الغابة التي تعيش فيها قانون، ولا يفرض احترام حقه عليك سلطان. وقد عمل في (النشر) وفي (التحقيق) أو ما دعوه تحقيقاً طائفة من البواشق، وصيادي المال، فكسبوا الغنى، وحصلوا لأنفسهم سمعة الناشرين والمحققين زوراً وبهتاناً».
الذي أتاح للناشرين والمحققين البيروتيين - بحسب ادعائه - السطو على «جهود العلماء المصريين» مرض ألمّ بمصر. (يقصد ثورتها آنذاك)، في سياستها للنشر وفي سياستها في خنق الفكر والمفكرين. «وفي غمرة هذا المرض الذي أصيبت به مصر هجم البيروتيون على عملية النشر يختطفون الأعمال التي أنجزتها مصر في خلال قرنين... وكانت الطبعات تترى... وبهذه الطريقة كسبت بيروت عند بعض الأغبياء أو المنافقين سمعة (النشر) وأفاد بعض هؤلاء الذئاب سمعة (التحقيق)، ومنهم من حصّل بها سمعة (العلم) التي ينفضها عنه وجود هذه المنشورات في السوق على الحال التي قدم بها لما زعمه (تحقيقه)».
هذا غيض من فيض سبابه للناشرين والمحققين اللبنانيين. أما سبابه لثورة يوليو 1952 – الذي فصّل القول فيه – فقوله المفصّل فيه معاد مكرّر من كثيرين. فالجدّة والجديد هو في سبابه للناشرين والمحققين اللبنانيين الذي قيل لمرّة واحدة لم تعد ولم تكرر من غيره.
يقصد نجيب البهبيتي بعبارة «سيادة القانون» – وهو شعار سياسي رفعه الرئيس أنور السادات لتأسيس شرعية سياسية جديدة له –
الإعلان أن الطبعات البيروتية لكتابه (المدخل لدراسة الأدب والتاريخ العربيين) طبعات غير شرعية. فهو بهذا الإعلان الجهري أنشأ بين طبعتيه، طبعة عام 1950 وطبعة عام 1961، المصريتين، وبين طبعته المغربية الجديدة، طبعة عام 1982، آصرة من نسب قريب، وقذف طبعتيه البيروتيتين طبعة عام 1967 وطبعة عام 1970 – أو كما قال – أكثر من عشر طبعات بيروتية إلى مجاهل النسب واعتبرها طبعات زنيمة!
إن نجيب البهبيتي باستعماله ذلك الشعار كان يشبّه صنيعه هذا بصنيع الرئيس أنور السادات في ثورة مايو (أيار) التصحيحية.
والفارق الأول بين ثورة السادات التصحيحية وثورة البهبيتي (المغربية) على الناشرين اللبنانيين، أن السادات كان أقل ثورية، وثورته في فحواها متهادنة ومتصالحة، فهو لم ينسف شرعية ثورة يوليو 1952، بل استصحبها مع شرعيته الدستورية الجديدة. أما البهبيتي فكان أكثر ثورية، وثورته (المغربية) كانت ثورة عنيفة واستئصالية. فهو أنكر أبوّته لطبعات كتابه البيروتية. مما جعلهن – يا لسوء المنقلب - من بنات السكك!
والفارق الثاني، أن السادات كان أقصر مدى. ففي عملية الإستفتاء لدخول مصر في اتحاد كونفدرالي مع سوريا وليبيا، كانت سوريا ليست البلد الأبعد في المسافة عن مصر في بلدان المشرق العربي، وكانت ليبيا البلد الأدنى في المسافة إلى مصر في بلدان شمال أفريقيا. أما البهبيتي فكان أبعد مدى، فالتفت ببعد أفق إلى أقصى بلد من بلدان شمال أفريقيا، وهي المغرب، وشبك شرعية كتابه المصرية القديمة بشرعية مغربية جديدة، مع الخسف بشرعيته اللبنانية وإسقاطها بلا رحمة. علماً بأن الخسف بالشرعية اللبنانية لكتابه وإسقاطها يعد أصلاً من أمارات ثورته الجذرية على الناشرين اللبنانيين. وهذا ما نبهنا إليه في الفارق الأول.
والفارق الثالث، أن السادات كان أقل حكمة. فهو أعلن ثورته التصحيحية بتصور وهو في بلده مصر، وليس في بلد بعيد المسافة عنه، في أثناء إحدى زياراته الرسمية له. وليس كذلك البهبيتي. فلأنه كيّس فطن - وليس لأنه أقل شجاعة - أشهر على الناشرين اللبنانيين سلاح «سيادة القانون» من المغرب وليس من لبنان!
في كتابه (أبو تمام الطائي: حياته وحياة شعره) الذي هو رسالته للماجستير والذي صدر عن مطبعة دار الكتب المصرية، سمى مقدمة طبعته الصادرة عن دار الثقافة بالدار البيضاء عام 1982، بـ(مقدمة الطبعة المغربية لأبي تمام) في إيماءة لئيمة إلى أن طبعة دار الفكر ببيروت عام 1970، فاسدة النسب!
إن أحمد العلاونة لو قرأ مقدمة طبعة كتاب (تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري) الصادرة عن دار الثقافة بالدار البيضاء عام 1982، لتعرّف على معنى (الطبعة المغربية) عند نجيب البهبيتي، ولو قرأها وقرأ مقدمة طبعة الكتاب الرابعة وقرأ مقدمتي طبعتي كتاب (أبو تمام الطائي: حياته وحياة شعره) وقرأ تصديره لكتاب (المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين) لعرف أنه مصري وليس مغربياً. فغلطه بتحديد جنسيته الصحيحة مصدره أنه اكتفى بتصفح ببليوغرافي لعناوين كتبه وجهة إصدارها. وللحديث بقية.