إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عينه في يدي

تشتعل الحروب وتنطفئ وتبقى تصاويرها. تمر السنوات والعقود ويجلس صحافي ليتأمل ما سجّلته عدسة المصور. يحاول استنطاق لقطات لم يكن شاهداً عليها. يقرأها بعين الحاضر. والنتيجة هذا المعرض الجميل الذي يستضيفه معهد العالم العربي في باريس تحت عنوان «عينه في يدي».
العين تعود للمصور الفرنسي ريمون ديباردون. واليد هي للكاتب الجزائري كمال داؤد، صاحب الرواية الشهيرة «معارضة الغريب». والمناسبة هي مرور سبعين عاماً على استقلال الجزائر. أي انطباع تتركه الصور لدى روائي لم يشهد «سنوات الجمر» ورأى النور بعدها؟
ديباردون هو اليوم على مشارف الثمانين. كان شاباً يعمل لحساب وكالة «دالماس» للتحقيقات المصورة. حمل هوية صحافية صادرة عن وزارة الإعلام في الحكومة الجزائرية المؤقتة في جنيف عام 1961. ذهب ليغطي مفاوضات إيفيان لإنهاء الحرب. حلّ في الجزائر مرات عديدة. يعلّق برقبته كاميرتين، «بنتكس» و«لايكا»، مع عدسات مقربة. مشى بين الناس وصعد فوق السطوح. التقط صوراً لشعب خليط من عرب وفرنسيين، مسلمين ومسيحيين ويهود، رجال يرتدون البدلات والبرانيط وغيرهم بالبرنوس والقشابية. نساء بفساتين صيفية وأخريات يتسربلن بالحايك الأبيض. نظرات تتواجه على الأرصفة وأكتاف تصطدم ببعضها ومرجل سياسي يغلي وينفجر.
بعد عشر سنوات ولد كمال داؤد. لم ترَ عيناه ما وثّقته كاميرا المصور. لكنه وهو يستعرض لقطات الأسود والأبيض، شعر وكأنه يتبنى ذاكرة جديدة. طفل جاء إلى الدنيا في بلد منزوع الاستعمار. شاهد الكثير من الصور والأفلام عن الحرب التي خاضها شعبه للانفصال عن فرنسا. لكن الصور تختلف باختلاف العين التي اقتنصتها. هي أمينة للواقع بالتأكيد لكن قد تكون محايدة أو لا تكون. منحته رؤيته للصور الإحساس بحضوره في زمنها. «أتفرج عليها وكأنني حي حينها. معاصر للأموات. أنظر إلى تلك الأدراج والواجهات. إلى المصطبة التي يجلس عليها رجلان تفصل بينهما مشاعر كراهية».
لا ذاكرات للقطط، مثلاً، ولا قدرة لها على التفكير. أما الإنسان فإنه مطارد بذاكرة تسبق ولادته. تنمو فيه ولا تتوقف إلا بموته. يورث وثائقه وصوره وحركاته وصوته المسجل إلى جيل تالٍ. ينقلها إلى أبنائه فتضاف إلى ما يعيشون. يتراكم التاريخ في رأس فرد. يضع كمال داؤد نفسه مكان الرجل الذي في الصورة. بشرة سمراء وشاربان رفيعان وشعر مجعد. جزائري يتكئ على النافذة. يتابع بعينيه فرنسية عابرة، امرأة رومية تقطع الشارع ماضية إلى موعد مجهول. يكتب في أحد نصوصه: «الحرب تبدأ مثل الحب: تحسّس الأجسام. تفتيش. توجّس. توتّر. متاريس. مظاهرات. صرخات. ثم يتوقف كل شيء مع أول حجر، أول الأسلحة».
ابتكر الكاتب وسيلته الخاصة كي يعيش في زمن الصور. أخذ كمال عين ريمون في يده وراح يضع كلمات تستنطق شخوص التصاوير. أهي فرصة سعيدة أم ورطة؟ أن تعيش وطنك مُستعمَراً، منقولاً إليك من آخر، وأن تتقمص أحوال بشر غيّب التراب كثيرين منهم؟
ثمانون صورة لريمون ديباردون ولوحات كبيرة مضاءة لخمسة نصوص لكمال داؤد. فيها بعض الشعر والكثير من الهذيان، وحتى العويل. وكانت دار «البرزخ» الجزائرية سباقة إلى جمع الصور والنصوص في كتاب. وهناك، في إحدى الواجهات الزجاجية داخل المعرض تستقر الكاميرتان العتيقتان للمصور، وهوياته الصحافية. يتجول الزائر بينها ويسترجع ذاكرته الخاصة. حروب بلاده. مظاهرات الاستقلال. شهداء الحرية. تلك كانت ناصعة زوّقها التاريخ بالغار والميداليات. بعدها نشبت حروب ونزاعات قصفت أرواحاً دونما طائل. صور ليتها لم تُلتقط.