جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

يوميات اللبناني

تخيل حياتك هكذا...
في الواقع لا حاجة لتشغيل مخيلتك، لأن يوميات اللبناني لا تصدق، ولكنها حقيقية.
الكهرباء، والمولدات، وسعر صرف الليرة، والغلاء، حديث البلد في النهار، الليل في لبنان له قصة أخرى، قصة لا يمكن أن يفهمها إلا من عاش في لبنان، وعرف تركيبة اللبنانيين البيولوجية الغريبة والمحيرة بعض الشيء.
وصل الناس إلى القمر، ولم تصل الكهرباء إلى لبنان بشكل مستمر، أكبر إنجاز في حياة اللبناني هو كرم أخلاق شركة الكهرباء في تأمين التيار لساعات محدودة ومعدودة للبيوت والأشغال، مهن كثيرة تعتمد على الكهرباء، وتأثرت ساعات عملها بسبب انقطاع التيار بشكل دائم، والمولدات لم تعد تلبي الحاجة، فاتورتان متوازيتان يتنافس على جمعها موظف الجباية الذي يتحمل صرخة المواطن الذي أثقل كاهله غلاء المعيشة والقلة وعدم الاستقرار.
تركيبة البلد غريبة بالفعل، لأن اللبناني يتأقلم مع الأوضاع المأساوية، لدرجة أنها تصبح جزءاً لا يتجزأ من يومياته وحياته حتى جناته، فيظن أن صفة التأقلم هي نعمة، وأن عزيمته على الكفاح والنضال في سبيل الحصول على أقل حقوقه ميزة يملكها هو دون سواه، لأنه مقتنع بمقولة «بيكفي أنك لبناني».
تزور لبنان تتفاجأ بالتناقضات، وتتعلم عبارات جديدة، مثل «فريش ماني» وترجمتها الحرفية «مال طازج»، نعم طازج، لأنه في لبنان هناك نوعان من العملة، المحلية والمستوردة، كما أن هناك تسعيرتين للعملة، الأولى رسمية، والثانية سوق سوداء، هناك فاتورتان للتيار الكهربائي، الأولى للشركة الرسمية، والثانية لأصحاب المولدات، حديث البلد هو غلاء الأسعار وتحكم التجار بها، الحياة الاجتماعية تدور حول الساعات التي تصل فيها الكهرباء إلى المنازل، حتى الطهي يتأثر بالكهرباء، فإذا انقطع التيار ولم تنعم بإنارة المولد لأنه يأخذ قسطاً من الراحة هو الآخر، فسيتعين عليك إلغاء مشروعاتك الاجتماعية والزيارات العائلية، حتى إلغاء السهرات في المنازل، من دون أن ننسى الشح في البنزين والطوابير أمام المحطات... والسبب هو رفع أسعار النفط، من دون سابق إنذار.
تخرج في المساء إلى أماكن جميلة تنسيك الهموم الحياتية اليومية، موسيقى حية وديكورات رائعة، وأسعار الأطباق عالية، مثل نغمات الموسيقى، فتنظر من حولك، وتتساءل؛ لا بد أن الجميع هنا يقبض بالدولار أو لديه حساب مالي «طازج»، عند اقتراب عقارب الساعة من منتصف الليل يبدأ الساهرون بالذهاب، والسبب هو أن هذه الدفعة من الزبائن تنعم بالتيار الكهربائي حتى الساعة الـ12 مساء، ولهذا السبب يتوجهون إلى منازلهم لكي يتسنى لهم استخدام المصعد الكهربائي، وتأتي بعد هذه المجموعة حفنة من الناس المحظوظين الذين ينعمون بالكهرباء حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فترى الفخر جلياً على وجوههم، كيف لا؟ وهذا الأمر مهم جداً لأمة برمتها، جعلها حكامها وسياسيوها تشحذ حقها، وتدفع ثمنه غالياً.
لطالما حيّر لبنان واللبنانيون الشركات التي تُجري الدراسات على هذا المجتمع، ولكن لم يعد الأمر سراً أو غامضاً، فنحو كل منزل في لبنان لديه عائلة تعيش خارج البلاد، وتعيل الأفراد المقيمين في الداخل، وهناك من حالفه الحظ، وكان راتبه بالعملة الصعبة، لكن الذين يتقاضون العملة المحلية التي تتراقص على أنغام الجشع وسواد القلوب، قبل سواد السوق، فهم الفئة التي لا حول ولا قوة لديها.
مرّ على لبنان واللبنانيين كثير من الظروف الصعبة وحروب كثيرة، لكن حرب التجويع لم تمر عليهم من قبل، فهذه حرب أعصاب، هدفها تهجير الناس وتعذيبهم يومياً. حتى المناخ لم ينصف هذا البلد، ولا أهله، فأصبح شتاؤه وأمسياته أطول وأبرد وأحلك.
مؤسف أن تروي يوميات اللبناني ومآسيه، ولكن من المؤسف أكثر أنه يعوّد نفسه عليها.