د. حنان حسن بلخي
TT

آن الأوان لاستقلال منظمة الصحة العالمية مالياً

سلطت جائحة «كوفيد - 19» الأضواء على الحوكمة العالمية للصحة، بل وأدت إلى مناقشات جادة حول كيفية إعادة تشكيل «بنية» الصحة العالمية بعد الجائحة لحماية العالم بشكل أفضل من التهديدات الصحية المستقبلية. ولكن في حقيقة الأمر، هناك كيان صحي عالمي متعدد الأطراف، تحدد أولوياته الدول الأعضاء بكل شفافية، كما تشارك بنفس الدرجة في وضع أجندته وفي المفاوضات القائمة بغض النظر عن قوتها الاقتصادية؛ هذا الكيان هو منظمة الصحة العالمية.
تأسست المنظمة قبل أكثر من سبعين سنة لتقوم بدور ريادي لمساعدة الشعوب في الوصول إلى أعلى مستوى ممكن من الصحة. وانضمت 61 دولة لتصبح النواة الأولى المسماة بالدول الأعضاء. كانت ميزانية المنظمة آنذاك، والتي بلغت 15 مليون دولار أميركي، حاصل الاشتراكات المقررة للدول الأعضاء. وبعد سبعة عقود من إنشائها، وصلت ميزانية المنظمة إلى 5.8 مليار دولار أميركي وتُبَرمَج كل سنتين. ومع أن عدد الدول الأعضاء أصبح 194 دولة، إلا أن نسبة الميزانية من اشتراكات الدول لا تتعدى 16 في المائة. وبقية الميزانية هي تبرعات تطوعية من عدة دول، إضافة إلى الاشتراكات السنوية، وتبرعات عدة جهات مانحة أخرى.
هناك تفاوت كبير في نسبة الميزانية التي مصدرها اشتراكات الدول الأعضاء مقابل الكم الأكبر من نسبة الميزانية التي مصدرها تبرعات تطوعية. علماً بأن هذه التبرعات تعتبر صمام الأمان للمنظمة وتَشكُر عليها المانحين حيث تُمكن المنظمة من القيام بالجزء الأكبر من أعمالها. ولكن من ناحية أخرى، فإن هذه التبرعات متعددة وأغلبها صغيرة القيمة وقصيرة الأمد، ومخصصة لدول أو أقاليم أو برامج معينة تَتْبَع أولويات الدول المانحة. خلال البرنامج الدوري الماضي، على سبيل المثال، تم حصر ما يقرب من 2000 منحة مالية. تأتي كل منحة بمتطلبات إدارية مختلفة عن غيرها، لكنها تتلقى بالطبع نفس الاهتمام الإداري، ما يستنزف وقت العاملين بالمنظمة وطاقتهم، ومن الأجدى أن يُستثمر في تطبيق البرامج. كما يؤثر ذلك سلباً على قدرة المنظمة على القيام بدورها لدعم البرامج بناءً على الحاجة الحقيقية للدول وبصورة متكاملة.
وباعتبار أن منظمة الصحة العالمية تلعب دوراً قيادياً لا غنى عنه في النظام الصحي العالمي، وأن مجموعة العشرين ركزت على أهميتها وبالتالي أهمية تمويل المنظمة بشكل كافٍ ومُستدام، فيجب أن تكون هناك حلول مطروحة للنقاش. وجب النظر الجاد في ضمان استقلالية المنظمة المالية وتقليل الاعتماد، كما هو الحال اليوم، على عدد محدود من المانحين لتضمن الدول استقلالية منظمة الصحة العالمية.
وكطريقة للمضي قدماً، أنشأت الدول الأعضاء في يناير (كانون الثاني) 2021 وبرئاسة ألمانيا فريق عمل للنظر في شأن التمويل المستدام للمنظمة. وأبدت أكثر من 100 دولة عضو آراءها بهذا الخصوص. أخذ الفريق بملاحظات وتوصيات عدة لجان مستقلة أُنشئت استجابة لجائحة «كوفيد - 19» فيما يتعلق بتمويل منظمة الصحة العالمية. وأذكر هنا، الفريق المستقل للتأهب لمواجهة الأوبئة والاستجابة لها، ومجلس مراقبة التأهب العالمي، ولجنة الخبراء الاستشارية والرقابة المستقلة لبرنامج الطوارئ الصحية لمنظمة الصحة العالمية، ولجنة مراجعة العمل باللوائح الصحية الدولية (2005) أثناء الاستجابة لجائحة (كوفيد - 19).
اتفق الجميع على أن الوضع الراهن غير مقبول، وأنه يجب تمويل منظمة الصحة العالمية على نحو مستدام. وقد خلص الكثيرون إلى أن الوقت قد حان لتوصية بزيادة اشتراكات الدول لتغطية 50 في المائة من العمل الأساسي لمنظمة الصحة العالمية بحلول عام 2028، وأن تتم مناقشة هذا المقترح قبل انعقاد جمعية الصحة العالمية لعام 2022، فبهذا القرار ستتحسن جودة التمويل، وستتمكن المنظمة من القيام بأعمالها بطريقة أفضل. تقوية منظمة الصحة العالمية ما هي إلا تقوية صوت جميع الدول في مجال الصحة. ومع بداية الجائحة، رددت كثيراً كما ردد كثير من خبراء الصحة العامة والأمراض المعدية: إن لم يكن الآن، فمتى؟

* خبيرة الأمراض المُعدية والأوبئة