د. حنان حسن بلخي

آن الأوان لاستقلال منظمة الصحة العالمية مالياً

سلطت جائحة «كوفيد - 19» الأضواء على الحوكمة العالمية للصحة، بل وأدت إلى مناقشات جادة حول كيفية إعادة تشكيل «بنية» الصحة العالمية بعد الجائحة لحماية العالم بشكل أفضل من التهديدات الصحية المستقبلية. ولكن في حقيقة الأمر، هناك كيان صحي عالمي متعدد الأطراف، تحدد أولوياته الدول الأعضاء بكل شفافية، كما تشارك بنفس الدرجة في وضع أجندته وفي المفاوضات القائمة بغض النظر عن قوتها الاقتصادية؛ هذا الكيان هو منظمة الصحة العالمية. تأسست المنظمة قبل أكثر من سبعين سنة لتقوم بدور ريادي لمساعدة الشعوب في الوصول إلى أعلى مستوى ممكن من الصحة. وانضمت 61 دولة لتصبح النواة الأولى المسماة بالدول الأعضاء.

استثمار المليارات من أجل ادّخار التريليونات

شُكِّلَت لجنة مراجعة أداء اللوائح الصحية الدولية في سبتمبر (أيلول) 2020 لتقييم الاستجابة للجائحة، كما ينص دستور اللوائح. وأصدرت اللجنة، في أبريل (نيسان) 2021، 40 توصية لتُنفَّذ دونما أي تأخير. تشبه هذه التوصيات إلى حدّ كبير توصيات لجان مراجعة أداء اللوائح الصحية الدولية الثلاث السابقة، والتي كنت عضوة في إحداها. وكان واضحاً من بدايات الجائحة أن التقدم المحرز في تنفيذ التوصيات السابقة من الدول الأعضاء بطيئة وغير متساوية بين الدول، عدا عن عدم تناول إعادة تأهيل الحوكمة العالمية في التعامل مع الأوبئة.

تحدي الاستثمار في الصحة العامة

من الأمراض التي استحوذت على اهتمام عالمي كبير في مطلع هذا القرن، هو مرض متلازمة نقص المناعة المكتسب، أو الإيدز، لما كان لهذا المرض من تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية وطبية كل في آن واحد. تم التعرف على هذه المتلازمة سنة 1981 عندما أُصيب عدد متزايد من الأفراد بأعراض مرَضِية ذات معالم جديدة على المجتمع الطبي، من التهابات حادة إلى أورام نادرة وخبيثة مجتمعة في المريض الواحد بسبب قدرة الفيروس المسبب لهذه المتلازمة على إحداث خلل في مناعة الإنسان. وبسبب عدم وجود علاج أو لقاح، عانى مرضى الإيدز من التقدم السريع في أعراض المرض وتبعات تنهك جهاز المناعة.

حوكمة الصحة العامة... تطلعات وتحديات

أحدثت متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد، المعروفة بـ«سارس»، والتي وقعت أحداثها سنة 2003 هلعاً عالمياً من انتشار جائحة تفتك بالدول دونما رحمة. حفّز ذلك الدول على إعادة النظر في تشكيل الحوكمة العالمية للصحة العامة، من خلال عدة لجان ارتبطت بشكل أو بآخر بمنظمة الصحة العالمية. بات الوصول إلى لغة تضم سياسات تناسب قدرات جميع الدول صعب المنال.

الأعراف الاجتماعية وتأثيرها على الصحة العامة

بينت منظمة الصحة العالمية أن ستين في المائة من مسببات الأمراض البشرية مصدرها حيواني. وأن خمسة وسبعين في المائة من الأمراض الناشئة التي أصابت الإنسان في العقد الماضي مصدرها حيواني. وبالتالي، يترافق ظهور وباء جديد بمجموعة من الأسئلة تندرج تحت محورين أساسيين. المحور الأول يسعى لمعرفة خصائص الفيروس أو الجرثومة الناشئة. فعلى سبيل المثال، تطرح أسئلة عن مصدر الفيروس، سرعة وطرق انتشاره، وإن كان من صنع الإنسان، أو جزءا مما يسمى بالحرب البيولوجية.

التكافل العالمي ... حقيقة أم أسطورة؟

أعلنت جمعية الصحة العالمية الثالثة والثلاثون سنة 1980، وبعد ما يقارب قرنين من تطوير تمنيع لمرض الجدري، أن العالم خالٍ من هذا المرض. يعتبر الكثيرون أن القضاء على هذا المرض، الذي يحصد 3 من كل 10 مصابين، أكبر إنجاز في مجال الصحة العامة الدولية. اليوم، يواجه العالم تحدي فيروس جديد ذي خصائص مختلفة عن الجدري، وذلك بظهور «سارس - كوف – 2»، الفيروس المسبب لجائحة «كوفيد - 19»، والذي ظهر في نهاية 2019. أول بادرة تفاؤل لإنهاء هذه الجائحة ظهرت جلياً حين أدى التعاون الدولي إلى تطوير لقاح ذي تقنية جديدة في فترة وجيزة وذي فاعلية عالية.

الصحة العامة وكليات الطب

تنتشر الأمراض المعدية بين الناس، أو من الحيوان والبيئة للإنسان بطرق مختلفة. فالتكدس البشري، ونقص موارد المياه النظيفة، وافتقاد وسائل تربية الحيوانات بطريقة صحية تضمن مصادر غذائية حيوانية ونباتية آمنة، فضلا عن غياب أنظم سلسلة الغذاء الآمنة وعدم تطبيق أسس مكافحة العدوى في تقديم الرعاية الصحية، كلها تُعدّ من عوامل انتشار الأمراض المعدية. وتفادي هذه الأمراض يُعتبر من أهم أهداف برامج الصحة العامة التي تهدف إلى ضمان صحة المجتمع كله. في مقاعد دراسة الطب، لم نتعمق في دراسة الصحة العامة.

جائحة القرن

هناك ارتباط وثيق بين الصحة العامة والأمن الدولي. تمكّنت جائحة القرن من أن تفتك بالدول العظمى بقدر ما أثّرت سلباً على الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل. ووضح للجميع أن التجهز والتأهب لهذه الجائحة كان، وما زال، في مرحلة الحضانة. في الأشهر الستة الأولى من الجائحة، قدمت دول مجموعة العشرين عشرة تريليونات دولار لمعادلة الخسائر الاقتصادية الناتجة في دولها. ونوّه أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، فيما يخص «سارس كوف - 2» إلى أن «الوباء يشكل تهديداً كبيراً لصون السلم والأمن الدوليين...