أحدثت متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد، المعروفة بـ«سارس»، والتي وقعت أحداثها سنة 2003 هلعاً عالمياً من انتشار جائحة تفتك بالدول دونما رحمة. حفّز ذلك الدول على إعادة النظر في تشكيل الحوكمة العالمية للصحة العامة، من خلال عدة لجان ارتبطت بشكل أو بآخر بمنظمة الصحة العالمية. بات الوصول إلى لغة تضم سياسات تناسب قدرات جميع الدول صعب المنال. المطلوب هنا الاتفاق على سياسات حوكمة عالمية تحمي، بالدرجة الأولى، المجتمع الدولي من احتمالية تطور وباء إلى جائحة وتحترم في الوقت نفسه سيادة الدول بعدم التدخل في كيفية تعامل الحكومات مع الوباء الناشئ على أراضيها، وألا ينتج عن هذه السياسات قرارات تؤثر سلباً على منافذ الحدود أو الحد من السفر والتجارة، لما في ذلك من تداعيات اقتصادية سلبية.
في منتصف القرن الرابع عشر، أَدخلت مدينة البندقية إجراءات الحجر الصحي لأول مرة في تاريخ العهد الأوروبي الحديث، وذلك حين تأثرت بانتشار وباء الطاعون في أثناء اجتياح الوباء للقارة. وبصورة مماثلة، طبّقت عدة مدن أوروبية، بعد ذلك، إجراءات حجر صحي بغرض منع دخول الأمراض إلى أراضيها. اتسمت هذه الإجراءات بالعفوية وتفاوتت في صرامة التطبيق بسبب قصور في المعرفة العلمية الكاملة لمسببات وكيفية انتقال وانتشار الأمراض المختلفة آنذاك.
وفي سنة 1851 تم عقد أول مؤتمر صحي أوروبي كمحاولة لإضفاء طابع رسمي على التعاون الدولي للتحكم في الأوبئة. عُقد المؤتمر في باريس وجمع ولأول مرة تمثيلاً صحياً وسياسياً من 12 دولة أوروبية للنظر في مسببات وطرق الحد من انتشار وباء الكوليرا الذي كان قد تفشّى في القارة. من خلال هذا المؤتمر، وما يزيد على عشرة مؤتمرات لاحقة، تم طرح عدة إطارات تعاونية لتطبيق الحجر الصحي والتعاون الدولي للحد من انتشار الأوبئة عبر القارة الأوروبية، ومع ذلك لم تستطع الدول أن تصل إلى اتفاقية واضحة.
كنتيجة جزئية لنجاح هذه المؤتمرات، والتي استمرت لما يزيد على ثمانين عاماً، تم تأسيس المكتب الصحي للبلدان الأميركية سنة 1902، ومن ثم المكتب الدولي للصحة العامة سنة 1907، وعندما تأسست عصبة الأمم سنة 1920 تم تأسيس «منظمة الصحة التابعة لعصبة الأمم». بعد الحرب العالمية الثانية، سنة 1948، شكّلت الأمم المتحدة، بضم جميع المنظمات الصحية، أول منظمة علمية تخصصية للصحة العامة سُميت منظمة الصحة العالمية والتي تضم اليوم 194 دولة تعمل من خلال المكتب الرئيسي و6 مكاتب إقليمية وأكثر من 150 مكتب قُطري. وبعد نصف قرن من المد والجزر في نقاشات لإيجاد إطار حوكمة عالمي يُعنى بالأوبئة، تم إصدار «اللوائح الصحية العالمية» سنة 1995 والتي تعد دستور منظمة الصحة العالمية والدول الأعضاء للتعامل مع الأوبئة. فصَّل الباحث آندرو برايس سميث في كتابه بعنوان «السياسة والأوبئة: الأمراض المُعدية والسياسة الدولية»، المحطات التاريخية المهمة للوصول إلى إصدار اللوائح الصحية العالمية. بيَّن الكاتب أن نجاح اللوائح الصحية الدولية في منع تطور وباء إلى جائحة يعتمد على رغبة وقدرة الدول في الكشف والإبلاغ عن العوامل المُمْرضة ومن ثمّ الرغبة والقدرة على تطبيق أسس الصحة العامة لكبح المرض في الدولة المعنية، ومن ثمّ التعاون الدولي في الكشف عن مسببات المرض ومنع انتشاره على نطاق أوسع.
توالت عدة دراسات بعد «سارس» أوضَحت قصوراً في لغة اللوائح الصحية الدولية الصادرة سنة 1995 عن أن تحمي العالم من خطر انتشار الأمراض المُعدية، لأن الأولوية في معالجة الأوبئة كانت لحرمة سيادة الدول ومن ثم لمنع انتشار الوباء. إضافةً إلى عدم تعرض اللوائح لكيفية التحكم والسيطرة على الأوبئة داخل الدولة الواحدة وعدم وضع منهجية واضحة لمساعدة الدول وإيجاد طرق مبتكرة للكشف المبكر والتبليغ الفوري عن نشوء مرض جديد أو انتشار مرض مستوطن. ولذلك تم تحديث اللوائح سنة 2005 كبداية جديدة لآلية مُحدَّثة. وكما كان متوقعاً استمرت الأوبئة واستمر التحدي لقدرة اللوائح على حماية المجتمع الدولي. ومع وقوع جائحة كوفيد، لا تزال النقاشات قائمة، والتي تقودها الدول الأعضاء، للوصول إلى إطار دولي يُعنى بالحوكمة العالمية للصحة العامة يناسب العصر الحديث ويأخذ بعين الاعتبار تطلعات وقدرات الدول. وللبحث صلة.
* خبيرة الأمراض المُعدية والأوبئة
TT
حوكمة الصحة العامة... تطلعات وتحديات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة